يعايش الإنسان في عالم اليوم استلاباً واغتراباً عن جوهره الإنساني دفع به إلى معدلات غير مسبوقة من الاكتئاب والانزواء واليأس، وهو ما تُعبر عن بجلاء إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2023م التي تشير إلى إصابة ما يقدر بنحو 3.8% من سكان الأرض بالاكتئاب، بما في ذلك 5% من البالغين (4% من الرجال و6% من النساء)، وهو ما يوازي نحو 280 مليون شخص في العالم، حيث يموت أكثر من 700 ألف شخص حول العالم منتحراً كل عام، إذ يشغل الانتحار المركز الرابع في الأسباب الرئيسة للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة.
فقد دفعت عجلة التقدم الهائل الإنسانية إلى مدى بعيداً جداً لم يعد الإنسان بمقدوره استيعابه وإدراكه، فأضحى التحديث الدائم آلة وحشية تلتهم البشرية بديلاً عن خدمتها ورفاهيتها، وقفزت التكنولوجيا قفزات سريعة وصادمة إلى حد أصبحت فيه تهدد الوجود الإنساني نفسه وتطرح نفسها بديلاً عنه ومسيطراً على حياة البشرية ومهيمنة عليها، لتخلق بذلك حالة مستعصية من الاغتراب الإنساني والتشيؤ الذي جعل الإنسان مجرد مستهلك عبداً للشهوات والملذات، فاقداً للمعنى والقيمة والذاتية والتميز.
وإذ تحدث ماركس، وإنجلز، وغيرهما، عشية اختراع الآلة في العصر الحديث عن اغتراب العامل عن صنيعة يده وفقدانه لقيمته ليتحول إلى مجرد ترس صغير في الماكينة الصناعية، فإن الوضع في اللحظة الراهنة لا يختلف كثيراً عن صدمة ماركس وتصريح فرويد بأن التقدم البشري قد عقد تحالفاً أبدياً مع الهمجية، حيث تم تكريس الاختراعات الحديثة كغاية في حد ذاتها حتى ولو لم يكن من ورائها غايات أخلاقية أو تضيف قيمة على حياة الإنسان.
تلك التطورات تدفع إلى الساحة بقوة سؤال مهم عن الإنسان، أين الإنسان من تلك الحضارة؟ وما قيمته ومقدار إسهامه في ذلك التقدم العلمي؟ لقد تم دفع الإنسان من مركز الحضارة والتحضر إلى الهامش، وبعد أن كان الفرد هو الغاية التي يتم من أجلها بناء وترتيب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يلبي احتياجاته وينمي قدراته ويحفظ كرامته، تم تسخير ذلك الفرد كأداة أو شيء في عملية التطور والتقدم، فصار مستعبداً متسلسلاً بالقيود والأغلال بدلاً من أن يتحرر ويحقق سعاداته وكمالاته.
يتخلى الإنسان عن نفسه لكي يستجيب لذلك النمط الاستهلاكي المادي المرسوم له من قبل المجتمع الرأسمالي، وينسى خصوصيته وتفرده ككائن مكرماً في الكون من أجل أن يدخل في إطار السوق يمارس فيه الدور المطلوب منه أن يكونه، وبدلاً من أن ينمي الإنسان نفسه باعتباره جوهراً مكوناً من روح متسامية وعقل مستنير، يتحول إلى كائن استهلاكي مادي شهواني غايته جمع المال لتلبية حاجاته الاستهلاكية ومراكمة الثروات المادية لحيازة المكانة الاجتماعية التي أصبحت حكراً على من لديه الأموال.
في تلك الحالة الاغترابية التي تتعرض فيها إرادة الإنسان وعقله وروحه للتشويه والتسليع، يسود القهر ومشاعر الدونية واللامبالاة والضعف والسلبية والانهزامية ويصبح لزاماً البحث عن سبيل ومخرج للهروب من أسر تلك الدائرة المغلقة التي تخاصر الإنسان، عبر تعزيز إنسانيته وقدراته وملكاته والإسهام في جذب الإنسانية نحو مركز الكون كمسيطر وفاعل إيجابي وحاملاً للأمانة كما في المنظور الإسلامي الحنيف.
الإيجابية في المنظور الإسلامي
رغم ما يحيق بالإنسان في عصر التطور التكنولوجي الهائل من ضغوط وتهميش وتشيؤ، وما يسيطر على المناخ العام من مادية وتسليع واستهلاكية، فإن المنظور الإسلامي قد منح الإنسان المسلم أدوات ومفاتيح لبناء شخصيته القوية البناءة الفاعلة في كل زمان ومكان، عبر منهجية إسلامية تتطلب من المسلم أن يكون معطاءً قوياً ثابتاً متفائلاً لا توقفه النوازل ولا تقعده العراقيل، يدرك ذاته الروحانية باعتباره كائناً مكرماً في الكون يحمل الأمانة التي تتطلب منه عمارة الكون وعبادة الله تعالى.
وتتمثل الإيجابية في أبهى صورها في المنظور الإسلامي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها»، فالعمل الجاد والجهد المخلص وتعمير الكون غاية في ذاته دونما انتظار لنتيجة مادية ترتجى أو عائد لحظي منتظر، بل العمل والتفاعل الاجتماعي والدور الفاعل للفرد المسلم المتيقن بالله يقتضي منه بذل الجهد المستمر لبناء مجتمع إيجابي يدرك أفراده مكانتهم ويتفطنون إلى فرادتهم وأهميتهم.
وانعكست الإيجابية في الهدي القرآني على أصعدة عدة طالبت المسلمين بأسلوب حياة خالٍ من الانزواء والانهزامية وتراخي الإرادة، فجاءت الأوامر القرآنية تدعو إلى «السير في الأرض»، و«التدبر والتأمل في الكون»، و«التفكر في قصص الأولين»، و«سُنن الكون» لأخذ الموعظة وتشكيل حكمة ورؤية متعمقة لنظام الكون وسيرورة الحضارات الإنسانية وعوامل نهضتها لتوخيها وأسباب انهيارها لتلافيها، فكان من أهم أسباب انهيار الأمم وتسليط العذاب على الأقوام في العصور المختلفة الفساد الاجتماعي وسيادة الجهل والضلال وتغليب مصلحة الفرد على الجماعة، وكلها قيم تنافي الإيجابية وتعارضها.
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، فالإيجابية في الهديين النبوي والقرآني تعني رفض السكوت عن الظلم أو التغاضي عنه، وإشاعة المسؤولية الاجتماعية بين أفراد الأمة، فلا تقع مخالفة أو تطرأ مشكلة إلا وللمسلم دوره الإيجابي في دفعها ورفضها والقضاء عليها، وفي ذلك يقول الهدي النبوي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، فالإيجابية ركن الإيمان الذي لا يستقيم بدونه؛ إذ على المؤمن واجب دائم بدفع الباطل وإنكار المنكر وإشاعة الحق.
تلك الإيجابية في المنظور الإسلامي تستدعي فهماً متعمقاً لمحورية دور الإنسان في الكون وإدراك المسلم؛ لأنه إنسان مسؤول عن حياته وحيوات الآخرين وسائر أرجاء الكون؛ «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، يحمل على عاتقه أدواراً مركزية في العالم، وبالتالي لا يشعر المسلم في ذلك المنظور بالاغتراب الذي فرضته الحداثة على الإنسان، بعد أن دفعت به من مركز الكون إلى الهامش، وعمدت إلى «تشييء» الإنسان وإخلائه من القيمة والروح والفرادة، ولا عاصم للفرد المسلم في ذلك العصر ذي التحديات الضاغطة والتقلبات الدائمة من الاكتئاب والاغتراب إلا بتولي زمام نفسه باعتباره مسؤولاً بشكل إيجابي عن نفسه والآخرين يشارك بفاعلية في سائر مناحي الحياة، ولا يكل أو ييأس، بل يستمر في الجهد والغرس إلى قيام الساعة.