هذا هو المقال التاسع من سلسلة «الأسس النفسية للتأثير الدعوي»، بعنوان «تقدير مشاعر المدعوين»، ويقصد به أن يدرك الداعية مشاعر المدعوين، ويحسن تقديرها، والاتصال بها في المجال الدعوي.
التأصيل الشرعي:
لقد حرص الإسلام على تقدير مشاعر الناس، فأمر بحسن مخاطبتهم، حيث قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء: 53)، كما حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تقدير مشاعر الناس بإنزالهم منازلهم، وحفظ مقاماتهم، فقال: «أنزلوا الناس منازلهم»(1)، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يقدّر مشاعر الأم التي يبكي وليدها وهي في الصلاة، فيقول: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجْد أمه من بكائه»(2)، وفي هذا دليل على دعوة الإسلام إلى تقدير مشاعر الناس، وحسن التعامل معها.
الدراسات النفسية تؤكد أن استيعاب مشاعر المخاطَبين تدفعهم إلى الانقياد
التوظيف النفسي:
تعتبر القدرة على إدراك مشاعر المدعوين وتقديرها من الوسائل الفاعلة في إحسان التواصل معهم، حيث أكدت الدراسات النفسية أن القدرة الفائقة على استيعاب مشاعر المخاطبين وتحسس تمتمات نفوسهم وهمسات وجدانهم تدفعهم إلى الاستجابة والانقياد(3)، فمن حرص على معرفة مشاعر مدعويه وتفاعل معها وأظهر تقديره لها؛ فإنه يدخل إلى قلوبهم ويستطيع أن يستميلهم ويقنعهم بعد ذلك بما يشاء.
التوظيف الدعوي:
يسهم تقدير مشاعر الناس في تحقيق التأثير الدعوي، فهو يعمل على إيجاد الألفة والمودة، وزيادة القرب والمحبة، وقبول التواصل وتحقيق الاستجابة، وقد تعددت المواقف الدعوية التي تدل على ذلك، ومنها:
أولاً: التهنئة في المناسبات السعيدة والتعزية عند المصيبة: تعبر التهنئة والتعزية عن المشاركة الوجدانية التي تجعل الإنسان يشارك غيره في مشاعره، فيفرح لفرحه ويحزن لحزنه، ومن الأمثلة على التهنئة ما ورد في قصة توبة الصحابي الجليل كعب بن مالك، بعد أن تخلف عن غزوة «تبوك»، يقول كعب: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ لَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ(4).
الإسلام يربي دعاته على تقدير مشاعر الناس من أجل بناء الألفة وتحقيق الاستجابة
وفي التعزية يتحدث المرء عن التعويض الإلهي الذي يشرح صدره ويخفف ألمه ويُذهِب همه، ويدل على هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين لقي جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاري بعد استشهاد أبيه، فقال له: «مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟»، قال: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْناً، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَداً قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحاً، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ..»(5)؛ وفي هذا دعوة إلى تقدير مشاعر المصاب من خلال تعزيته والتحدث معه بما يخفف عنه.
ثانياً: تقديم النصيحة سراً لا جهراً وتلميحاً لا تصريحاً: فقد كان رسول الله إذا بلغه عن الرجل شيء يقول: «ما بال أقوام..»، ولا يقول: ما بال الرجل يفعل كذا وكذا؛ لأنه يراعي مشاعر الإنسان الذي يقدم له النصيحة، فيجعلها عامة لا خاصة.
ثالثاً: توقير الكبير: وذلك من خلال تقديره واحترامه، والوفاء بحقه، فإن هذا من الإيمان، حيث جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا»(6).
الحرص على تقدير مشاعر الفقراء عند أخذ صدقاتهم والنهي عن أذيتهم
رابعاً: مناداة الناس بأحب الأسماء إليهم: فقد يطلق البعض على غيرهم أسماء وألقاباً يكرهونها، فيجب ألا نناديهم بها، بل نخاطبهم بما يحبون من الأسماء، فإن هذا يضمن صفاء الود بين الناس، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تغيير أسماء بعض أصحابه، حيث غيّر اسم العاصي إلى مطيع، وعاصية إلى جميلة، وقليل إلى كثير، وأسود إلى أبيض، وحزن إلى سهل، وحرب إلى سلام..(7)؛ وذلك لما تحمله دلالات الأسماء من آثار في نفوس أصحابها، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تقديرها ومراعاتها.
خامساً: مراعاة مشاعر السائلين: فقد حرص الإسلام على تقدير مشاعر الفقراء عند أخذ صدقاتهم، فنهى عن أذيتهم، قال تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (الضحى: 10)، وقال: (لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى) (البقرة: 264)، فمن تعمد أذية الفقير بطلت صدقته، وفي هذا مراعاة لمشاعر الفقراء.
سادساً: التلطف في رد السائل غير المستحق: فإذا كان السائل لا يستحق العطاء فإن المسلم يرُده بكلمة طيبة، فقد أتى رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فيهما البصرَ وخفضه، فرآهما جَلْدين، (أقوياء)، فقال: إن شئتما أعطيتُكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مُكتَسِب(8)، وهذا رد لطيف يحفظ مشاعر الناس.
ومما يدل على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ»، فَقَامَ عُكَّاشَةُ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ»، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عكاشة»(9)؛ وسبب ذلك أن الرجل الثاني لم يكن ممن يستحق تلك المنزلة ولا كان بصفة أهلها، بل كان منافقاً، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام محتمل ولم يصرح له بأنه ليس منهم(10).
النبي حرص على تقدير مشاعر الناس وحفظ مقاماتهم لتحقيق التأثير الدعوي
سابعاً: عدم التحدث سراً بين اثنين في وجود الثالث: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فإن ذلك يحزنه»(11)، ويدخل في هذا النهي عن كل صورة تؤدي إلى عدم مراعاة شعور الثالث، مثل التحدث بلغة لا يفهمها، فإن هذا يحزنه، وقد حرص الإسلام على تقدير مشاعره.
ثامناً: النهي عن الجهر بالسوء من القول: لقد نهى الإسلام عن انتشار السيئ من القول، لأنه يخدش حياء الناس، ويجرح مشاعرهم، ولهذا قال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء: 148)، كما حرّم السب والقذف على الإطلاق؛ تقديراً لمشاعر الناس وحماية لهم، قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108)، بل إن الإسلام حرّم سبّ الأموات، لأنه يؤدي إلى أذى الأحياء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ»(12).
فهذه بعض التوجيهات التي تدل على دور تقدير مشاعر الناس في تحقيق التأثير والاستجابة الدعوية.
الدليل على التأثير الناجح:
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير مشاعر الناس وحفظ مقاماتهم، مما كان له الأثر الطيب في تحقيق التأثير الدعوي، ويدل على ذلك ما كان منه عندما أرسل رسائله إلى الملوك والأمراء، حيث كان يكتب فيها: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم»، وفي رسالته إلى كسرى، قال: «إلى عظيم فارس»، وفي رسالته إلى المقوقس، قال: «إلى عظيم القبط»، وفي رسالته إلى النجاشي، قال: «إلى ملك الحبشة»، وقد أسلم النجاشي بعدها، وأحسن الرد عليها(13).
بل إن الإسلام دعانا إلى مزيد من السمو والرفعة في تقدير مشاعر الناس، حيث ذكر القرآن الكريم موقف سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته بعد أن آذوه وجاؤوا إليه في مصر، فلم يؤذهم أو يذكّرهم بما فعلوه معه، بل قال لهم: (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) (يوسف: 100)، فلم يقل: أخرجني من البئر، حتى لا يجرح مشاعر إخوته، وهم الذين ألقوه فيه قبل ذلك.
والخلاصة أن الإسلام يربي دعاته على الاعتراف بمشاعر الناس وتقديرها عند مخاطبتهم، من أجل بناء الألفة والمودة وتحقيق القبول والاستجابة.
______________________________
(2) صحيح مسلم، (1/ 5).
(3) صحيح البخاري، (1/ 250 رقم 677).
(4) الإعجاز البلاغي في القصة القرآنية: د. عدنان مهدي، ص 143.
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، (944).
(6) سنن الترمذي بسند حسن، (5/ 110 رقم 3010).
(7) سنن الترمذي، (3/ 479 رقم 1919).
(8) الجامع في الحديث: لابن وهب، ص 116.
(9) مسند أحمد بإسناد صحيح، (29/ 486 رقم 17972).
(10) صحيح مسلم، (1/ 198 رقم 218).
(11) شرح النووي على مسلم، (3/ 89).
(12) صحيح مسلم، (4/ 1718 رقم 2184).
(13) سنن الترمذي، (3/ 523 رقم 1982).
(14) البداية والنهاية: لابن كثير، (2/ 89).