يشير مصطلح التحول الرقمي إلى تلك العملية التي يتم فيها تحويل المصادر والمعلومات والموارد لدى أي من المؤسسات أو الأفراد من مواد تقليدية مادية إلى مواد رقمية قابلة للتخزين والحفظ بشكل رقمي إلكتروني، وذلك باستخدام التقنيات الرقمية التكنولوجية الحديثة التي تتيح لأي فرد حفظ كم هائل من البيانات والمعلومات في سحابة رقمية إلكترونية، وبشكل عام يشير التحول الرقمي إلى استخدام الأساليب التكنولوجية المتطورة في سائر مناحي الحياة لتيسيرها وتسريع وتيرتها ورفع مُعدلات الإنجاز.
وقد أدى التحول الرقمي إلى عدد من التحولات والتبدلات في سائر أركان حياة البشر، وعلى المستوى التعليمي نشهد عديداً من التعزيزات الإيجابية التي طبعتها التكنولوجيا الحديثة والتحول الرقمي على العملية التعليمية من تسهيل الوصول إلى المعلومات والإسهام في إتاحتها بشكل أكبر، بالإضافة إلى تيسير العملية التعليمية من الشكل التقليدي للفصل/ المُدرج إلى التعلم عن بُعد، وظهور المنصات التعليمية غير الرسمية والبرامج والتطبيقات الإلكترونية والدروس المُسجلة المتاحة للاطلاع في أي وقت.
ذلك التحول السريع والهائل في التحول الرقمي والتطور التكنولوجي قد فرض تحديات متشعبة ومتعددة على سائر البشر للتكيف مع تلك التطورات لمواكبتها، إذ النكوص عن التعامل بشكل فعال مع تلك التطورات والتحولات سيجعل من أولئك غير المتفاعلين بمثابة «أميين»، فالأميّ في عصر التحول الرقمي ليس هو الفرد الذي لا يستطيع القراءة والكتابة فحسب، كما ساد خلال العصور الماضية، بل هو غير القادر على استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة وفهم الأدوات الرقمية والتعاطي مع التحديثات السريعة للأنظمة والتطبيقات الإلكترونية.
التخصص الجامعي.. ومواكبة التطورات
ورغم أن الأجيال الشابة من نعومة أظفارها قد تربت على التكنولوجيا الحديثة وأدواتها المختلفة، فإن لحظة اختيار التخصص الجامعي قد أصبحت أكثر تعقيداً من ذي قبل بالنسبة للشباب، فهي بخلاف حاسميتها كخطوة رئيسة في مستقبل كل طالب، إذ على أساسها يقضي الإنسان بقية عمره في مجال معين نظرياً وعملياً، وبناءً على ذلك الاختيار لمجال معين غير ذي عائد مادي مربح أو طلب عالٍ في سوق العمل قد يعيش الإنسان في أزمات متلاحقة لتغيير التخصص مرة بعد مرة أو القبول بوظائف غير راضٍ عنها ومن ثم انخفاض إنتاجيته.
وقد جاء التطور التكنولوجي والتحول الرقمي ليزيد من حيرة الشباب قبيل اختيار تخصصاتهم الجامعية، إذ بات التطور سريعاً جداً لملاحقته وفهم أي الوظائف سيكون لها الشأن الأكبر في المستقبل الذي صار صعب التنبؤ في ظل تحولات جامحة في المجال التكنولوجي.
فعلى سبيل المثال؛ أضحى مستقبل مجال الكتابة الصحفية في خطر داهم بعد ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على كتابة عشرات المقالات في لمح البصر، وكذلك في مجال التصميم الجرافيكي والتعليق الصوتي وكثير من مناحي المجال الإعلامي والصحفي.
وأصبح تخصص الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، الأعلى اهتماماً في مجال أسواق العمل، ومن ثم أصبح الإقبال على التخصص في دراسة ذلك المجال الجامعي أعلى من ذي قبل في ظل مؤشرات إيجابية لنمو ذلك المجال في السنوات المقبلة.
من ناحية ثانية، عززت التكنولوجيا من فكرة تعدد التخصصات وتداخلها، فلم يعد التخصص في مجال واحد بعينه والتعمق فيه مرضياً لأسواق العمل في ظل التحول الرقمي، الذي وضع تحدياً كبيراً على الطالب أن يعلم أن تخصصه الجامعي غير كافٍ في سوق يسيطر عليه التحول الرقمي، بل عليه أن يدعم تخصصه الجامعي بكثير من الدراسات والتخصصات البينية التي ترتبط بمجاله وترتبط بالتكنولوجيا الحديثة.
ويعزز من تلك الرؤية من المبدأ الذي صار راسخاً في عصر الثورة المعرفية العالمية الراهنة بأن «المعرفة هي القوة» (knowledge is power)، إذ شهد العالم عبر تطوره ثورات عدة نتيجة الاكتشافات العلمية، منذ اكتشاف النار، ثم العجلة، ثم الذرة، وأخيراً الذكاء الاصطناعي.
من كل ذلك يجدر بكل طالب جامعي على وشك أن يختار تخصصاً أن يحيط علماً بعدد من المتغيرات والخلاصات التي تحكم التخصص الجامعي في عالم اليوم:
1- التخصص ليس نهاية المطاف، بل بدايته: إذ اختيار التخصص لا يعني إعفاءً من مسؤولية الاطلاع على تخصصات أخرى بينية ترتبط بالتخصص المختار، بل يجب على الطالب تطوير نفسه باستمرار في مجالات أخرى قريبة من تخصصه أو حتى بعيدة عنه، وفي كل الأحوال صار الإلمام بالرقمنة والتكنولوجيا فرض عين على كل الطلاب في سائر التخصصات.
2- التخصص لا ينتهي بانتهاء سنوات الجامعة: إن اختيار أي تخصص بغض النظر عن كنهه يجب أن يتبعه اطلاع دائم ومستمر على الأبحاث الحديثة والتطورات الطارئة على ذلك التخصص؛ إذ بات التحول الرقمي مؤثراً بدرجة كبيرة على زيادة معدل تطور التخصصات باستمرار.
3- ربط التخصص بأسواق العمل: يجب على الطالب متابعة الاتجاهات المحلية والدولية فيما يتعلق بأسواق العمل والتخصصات الأكثر طلباً والتنبؤات بشأن مستقبل بعض التخصصات سواء بالاندثار أو الازدهار.
4- التخصص لم يعد جامعياً: في عصر أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي لديها إجابة لكل سؤال وحل لكل مشكلة، لم تعد الجامعات هي المكان الوحيد المحتكر للمعلومات الاختصاصية الدقيقة، بل أصبحت قدرة الطالب على الحصول على فيض هائل من المعلومات أمراً متيسراً بضغطة واحدة، ومن ثم على الطالب قبيل التخصص الجامعي إدراك حقيقة أن الدراسة لن تقتصر على سنوات الدراسة، ولن تنحصر بين جدران الجامعة ومقاعد الصفوف الدراسية، بل لقد وفرت له الرقمنة طرقاً متنوعة وميسرة لتلقي المعلومات والبيانات؛ وهو ما يضع على عاتق الطلاب مسؤولية البحث عن المعلومات والاهتمام بجمع البيانات من مصادر متنوعة لإثراء ثقافتهم التخصصية في سنوات الدراسة الجامعية وما بعدها.
وبشكل عام، يمكن القول: إن الرقمنة كما يسَّرت التعلم وأتاحت المعلومات ونوَّعت وسائل العملية التعليمية، فقد وضعت على عاتق الطلاب مهمة ليست بالهينة في اختيار تخصصهم الجامعي في عالم شديد التحولات وأسواق عمل متبدلة المتطلبات، وأبرز ما أحدثته تلك الرقمنة التحدي الخاص بمحو الأمية التكنولوجية، والاطلاع الدائم والدؤوب على التطورات والتحديثات في المجال التقني، وإدماجه إيجابياً بما يفيد أي تخصص يختاره الطالب، بالإضافة إلى التحدي الخاص بتحديد التخصصات التي باتت ذات أهمية قصوى في سوق العمل اليوم وفي المستقبل.