ركزت حادثة الاعتداء العنصري على سائح كويتي في مدينة طرابزون التركية، في سبتمبر الجاري، الأنظار على ظاهرة الكراهية والعنصرية ضد الأجانب، وخصوصاً العرب، المتزايدة في الآونة الأخيرة، والأخطار التي تشكلها، ويمكن أن تشكلها مستقبلاً على الجميع.
أسباب الظاهرة
العنصرية وكراهية الآخر، ولا سيما الأجنبي، ظاهرة عالمية، وتركيا ليست بدعاً من الدول في هذا الإطار، فلدى الشعب التركي اعتزاز كبير بقوميته، إلا أن ذلك ليس سبباً كافياً للظاهرة ولا إطاراً وافياً لتفسيرها.
في تركيا والعالم، تقف أسباب عديدة خلف تنامي ظاهرة اليمين المتطرف الشعبوي ومنه العنصري، وفي مقدمتها الأزمات، وفي الخصوصية التركية وفد السوريون وباقي الأجانب على تركيا منذ عام 2011م وبأعداد كبيرة، ورغم الخلاف الداخلي بخصوص الأزمة السورية، فإن ذلك لم يؤد قبل اليوم لما رصدناه مؤخراً من مظاهر كراهية وتحريض وعنصرية.
لقد مثلت الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وخصوصاً تصاعد نسبة التضخم وغلاء الأسعار وضعف القوة الشرائية، دافعاً رئيساً للتذمر من الأجانب، ولا سيما اللاجئين السوريين؛ بعدِّهم جزءاً من أسباب هذه الأوضاع، من باب فرص العمل والتنافسية، وما يُدّعى أنها أموال يحصلون عليها من الحكومة التركية على حساب المواطنين.
كما كان للاستقطاب السياسي الذي تعمق في السنوات القليلة الأخيرة وتحول جزئياً للمجتمع دور بارز في ذلك، لا سيما وأن الملف السوري عموماً أحد أهم معالم الخلاف بين الحزب الحاكم والمعارضة في السياسة الخارجية.
الأوضاع الاقتصادية الصعبة مثلت دافعاً رئيساً للتذمر من الأجانب
إلا أن نقطة التحول الكبرى كانت تبني بعض أحزاب المعارضة برنامجاً سياسياً مركزاً على ملف اللاجئين، وتحديداً السوريين منهم، وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري الذي أعلن عن نيته «إعادة جميع السوريين إلى بلادهم خلال سنتين»، ومع قرب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، تحول هذا الموقف لوعد بل لبرنامج انتخابي للحزب وأحزاب أخرى أقل قوة وحضوراً.
ثم تأسس حزب النصر المعادي للاجئين برئاسة القيادي القومي المتطرف «أوميت أوزداغ»، الذي جعل اللاجئين الملف الوحيد تقريباً الذي يهتم به حزبه، واضعاً الأجانب عموماً في إطار المهدد الإستراتيجي للبلاد اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وقد تعمق الأمر أكثر قبل جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، التي حصل فيها تفاوض بين المتنافسَيْن والمرشح الثالث القومي «سينان أوغان»، مقدمين وعوداً متعلقة باللاجئين، إضافة لتحالف مرشح المعارضة مع «أوزداغ» ورفع سقفه بخصوص السوريين وجعلهم شعاراً رئيساً لحملته الانتخابية.
وهكذا، سريعاً، تدرجت الحالة من مرحلة الخطاب المعترض على سياسة الحكومة بخصوص اللاجئين، إلى التحريض عليهم، ثم إلى التعرض لهم وخصوصاً السوريين منهم، ثم إلى خطاب كراهية ضد الأجانب عموماً والعرب على وجه الخصوص، وصولاً للاعتداء الجسدي على بعض السياح.
وقد شكلت وفاة سائح مغربي بعد ضربه ثم الاعتداء على سائح كويتي في مدينة طرابزون مؤشراً على خطورة التطورات ودقت ناقوس الخطر لدى الحكومة التركية.
أخطار على الجميع
إثر الاعتداء على السائح الكويتي، في سبتمبر، ولا سيما بعد التحرك الفاعل لجهات كويتية مثل وزارة الخارجية ومجلس الأمة، تحركت الحكومة التركية على عدة مستويات لمتابعة الحادث وتبعاته، بدءاً من والي المدينة مروراً بالجهات الأمنية والسياسية، وليس انتهاء بالسفيرة التركية في الكويت، الذين أكدوا جميعاً رفض ما حصل وضرورة حماية ضيوف البلاد، كما أعلن وزير العدل التركي «يلماظ تونج» عن سعي الحكومة لحزمة من القوانين التي ترفع من عقوبة الكراهية والعنصرية.
تبني بعض أحزاب المعارضة برنامجاً سياسياً مركزاً على ملف اللاجئين
قبل ذلك بأيام، كان الرئيس التركي قد أعلن عن أن حكومته «لن تسمح بتفشي الكراهية والعنصرية»، أو «النكوص عن الخصال الحميدة للشعب التركي» الذي طالما استضاف لاجئين وغيرهم، وبعدها بأيام بدأت وزارة الداخلية حملة توقيفات لأصحاب حسابات رائجة على وسائل التواصل معروفة بالتحريض ضد الأجانب.
هذا التحرك التركي الرسمي نابع من استشعار الخطر الذي تشكله هذه الظاهرة، أولاً على الأجانب المقيمين على الأراضي التركية والزائرين لها، وثانياً على تركيا من زاوية السلم الأهلي والأمن المجتمعي، وكذلك من زاوية السياحة والاقتصاد، لا سيما أن الاعتداء على السياح وُوجه ببعض الدعوات لمقاطعة السياحة في تركيا على وسائل التواصل، فضلاً عن أهمية دول الخليج العربي في مجال السياحة والاستثمار في المرحلة الصعبة التي يمر بها الاقتصاد التركي، وسعي الحكومة لجلب الاستثمارات الخليجية على وجه الخصوص.
المطلوب
قوبلت التحركات الحكومة التركية بالاستحسان؛ إذ وجهت رسالة واضحة بعدم الرضا عما حصل والعزم على مكافحته، ورغم ذلك تبقى تلك خطوات محدودة التأثير في مواجهة ظاهرة مركبة ومعقدة وآخذة بالتنامي مثل العنصرية، ذلك أن موجة الكراهية والعنصرية لها عدة أوجه متداخلة، منها ما يتعلق بالثقافة، ومنها ما يرتبط بخطاب التحريض، ومنها ما يتصل بالاعتداءات المباشرة ولا سيما الجسدية.
وعليه، فإن التدخل الحكومي بعد أي حادث يحمل الصبغة العنصرية ضروري ومفيد وواجب، ولكنه ليس كافياً، إذ تحتاج الحكومة أن تعمل على عدة مستويات لمواجهة المجالات سالفة الذكر.
العنصرية ضد الأجانب وصلت لمستويات غير مسبوقة حتى الاعتداء المباشر
فثمة حاجة للعمل على مجال الوعي، بمواجهة سردية التيارات المتطرفة والعنصرية وتفنيد مزاعمها وتكذيب الشائعات المتعلقة بالأجانب من خلال المعلومات والأرقام والإحصاءات، وعلى الخطاب الحكومي من جهة، والإعلام من جهة أخرى، أن يمارسا دوراً رئيساً وبنّاءً في هذا الإطار.
كما هناك ضرورة ملموسة لسن قوانين رادعة بخصوص ظاهرة الكراهية والعنصرية، ترفع من مستوى العقوبات المتعلقة بهذه الجرائم من جهة، ولا تكتفي بالاعتداءات المباشرة منها، ولكن تجرّم أيضاً الخطاب التحريضي والتأجيجي ضدهم، لا سيما الذي يرافقه معلومات مغلوطة وشائعات مغرضة، وهو ما بشّر به وزير العدل، كما سلف ذكره.
كما على الحكومة أن تشدد الأيدي في متابعة وملاحقة ومحاسبة المعتدين على الأجانب بمختلف فئاتهم، تحريضاً وفعلاً مباشراً، وثمة خطوات مبشّرة على هذا الصعيد مثل حملة التوقيفات التي سبق تفصيلها هنا.
أخيراً، تبقى هناك 3 ملحوظات مهمة في السياق؛ الأولى: أن مواجهة هذه الظاهرة ستحتاج استمرارية ونفَساً طويلاً، فتحجيم ظاهرة خطيرة من هذا النوع تفاقمت عبر السنين لن تكون ممكنة خلال أيام أو أسابيع، والثانية: أن الخطاب الحكومي ينبغي أن يكون أكثر اعتدالاً وحذراً حين يقارب مسائل مشابهة أو ملتبسة مثل مكافحة الهجرة غير النظامية للبلاد، بحيث لا يتخذها العنصريون ذريعة للتحريض والاعتداء، كما حصل مؤخراً للأسف.
ثمة حاجة للعمل على الوعي لمواجهة سردية التيارات المتطرفة والعنصرية
وأخيراً؛ كانت الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في مايو الماضي، محطة مهمة في تأجيج الخطاب المعادي للاجئين والأجانب عموماً في تركيا؛ بسبب تبني ملف اللاجئين ضمن الأجندة الانتخابية وسخونة الحملات وحدّة الاستقطاب؛ ولذلك هناك تخوف كبير من أن تحمل الانتخابات المحلية القادمة المتوقع تنظميها نهاية مارس المقبل أخباراً سيئة على هذا الصعيد، خصوصاً وأن بعض الأحزاب، وفي مقدمتها حزب النصر المتطرف، عادوا لوضع اللاجئين في بؤرة اهتمامهم وخطابهم الانتخابي.
ختاماً، وصلت ظاهرة الكراهية للأجانب والعنصرية ضد العرب تحديداً لمستويات غير مسبوقة وانتقلت لفكرة الاعتداء المباشر؛ ما دق نواقيس الخطر لدى الحكومة لمواجهتها، وهي مواجهة يفترض أن تكون مركّبة وطويلة النَّفَس كما هي أسباب الظاهرة السلبية، كما ستحتاج لتضافر الجهود مع الحكومة من قبل المثقفين وأصحاب الرأي والشخصيات الاعتبارية ذات التأثير ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، وكذلك الجاليات العربية والأجنبية في تركيا.