تفاقَمَ العنف الأسري كظاهرة عالمية متزايدة خلال السنوات الماضية، ونالت المجتمعات العربية منه نصيباً معتبراً، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تلك المجتمعات، خاصة خلال العقد الماضي؛ ما ضاعف من التهديدات التي تهدد بالتفكك الأسري.
والعنف الأسري، وفق التعريف المعتمد بالأمم المتحدة، هو «استخدام القوة الجسدية أو النفسية أو الجنسية أو الاقتصادية من قبل أحد أفراد الأسرة ضد آخر، بغية التسلط أو التهديد أو الترويع أو التحكم»، ويشمل عدة أنواع، أبرزها: العنف ضد الزوجة، والعنف ضد الزوج، والعنف ضد الأبناء، والعنف ضد كبار السن، والعنف ضد ذوي الاحتياجات الخاصة.
ويستخدم المعتدي على الضحية عدة أساليب، تختلف باختلاف نوع العنف الذي يمارسه، فبعضها يتعلق بالقوة الجسدية، مثل الضرب أو الجرح أو الاغتصاب أو الحبس، وبعضها يتعلق بالقوة النفسية، مثل التهديد أو الترويع أو التحقير، وبعضها يتعلق بالقوة الاقتصادية، مثل السرقة أو الإهدار أو الحرمان أو التسلط، وفق التحديد الأممي.
ويؤثر هذا النوع من العنف سلباً على صحة وسلامة وكرامة وحقوق ضحاياه، ويخلق جواً من التوتر والصراع والخوف في البيئة الأسرية.
وتشير دراسة، نشرها المجلس الأوروبي لمناهضة العنف ضد المرأة، عام 2017م، إلى عدة عوامل تساهم في حدوث العنف الأسري، تتراوح بين الشخصي والأسري والاجتماعي والثقافي، وبعضها يتعلق بصفات وسمات المعتدي، مثل انخفاض مستوى التعليم أو التحصيل المهني، أو ارتفاع مستوى التوتر أو التشاؤم أو التحدي، أو اضطرابات نفسية أو عقلية أو جسدية.
انخفاض مستوى التعليم ونقص الموارد المادية من أبرز الأسباب
أما ثاني أنواع العنف الأسري فيتعلق بظروف ومشكلات الأسرة، مثل نقص الموارد المادية أو المعنوية، أو صراعات المصالح أو المشاعر، أو اختلافات في التربية أو التوجهات، فيما يتعلق النوع الثالث بتأثيرات وضغوط المجتمع، بحسب دراسة المجلس الأوروبي.
وبحسب الدراسة ذاتها، فإن انتشار ثقافة العنف في المحتوى المرئي، المشاهد عبر الإنترنت أو القنوات الفضائية، يمثل محفزاً نفسياً أساسياً للعنف الأسري، إذ تساهم تلك المشاهد في التطبيع بين التكوين النفسي للمعتدي وبين العنف كوسيلة لحسم الخلاف.
ظاهرة خطيرة
وأورد تقرير نشرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا عام 2018م أن العنف الأسري في المجتمعات العربية يشكل ظاهرة خطيرة ومنتشرة، تؤثر على ملايين الأسر والأفراد، خاصة النساء والأطفال.
وتصل نسبة النساء اللائي تعرضن للعنف من قبل أزواجهن في المجتمعات العربية إلى 37%، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي بلغ 30%، بحسب التقرير.
أما نسبة الأطفال الذين تعرضوا للضرب من قبل آبائهم أو أمهاتهم في المجتمعات العربية فبلغت 80%، مقارنة بالمتوسط العالمي، الذي بلغ 50%.
وترجع هذه النسب العالية إلى عدة عوامل، منها ما وصفه التقرير بـ«النظام الاجتماعي الذكوري»، والقوانين المتساهلة أو المتخلفة، وثقافة تبرير العنف، والصمت المخجل إزاء ممارساته.
طرق العلاج
ثمة طرق رسمية لعلاج هذا النوع من العنف، بعضها يهدف إلى حماية ضحايا العنف من خطورة المعتدي، مثل إصدار قانون يجرم كافة أشكال العنف الأسري، وإنشاء هيئات ومراكز تقدم الدعم والمساعدة للضحايا، وإجراء تحقيقات ومحاكمات تحاسب المعتدين.
وهناك طرق أخرى اجتماعية، تهدف إلى توعية المجتمع بخطورة العنف الأسري وسبل الوقاية منه، مثل إطلاق حملات إعلامية وتثقيفية تنشر الوعي والثقافة بين الأفراد، وإجراء دراسات وبحوث تنير الرأي العام بحقائق وأرقام عن الظاهرة.
انتشار مشاهد العنف في المحتوى المرئي محفز أساسي للظاهرة
أما إصلاح سلوك المعتدي وتغيير موقفه من العنف، فيتعلق بمسار ثالث لعلاج العنف الأسري، عبر إشراكه في برامج نفسية أو اجتماعية أو دينية تساعده على التخلص من عوامل العنف في شخصيته، وتعليمه كيف يتعامل مع زوجه أو أولاده أو أهله بشكل حضاري ومحترم.
وفي هذا الإطار، حللت دراسة نشرتها الجامعة الأمريكية في بيروت، عام 2019م، طرق علاج العنف ضد الأبناء في لبنان، وقسمتها إلى 3 مجموعات: مجموعات الدعم، والمشورة الفردية، والعلاج الأسري.
وتوضح الدراسة أن مجموعات الدعم هي مجموعات من الآباء أو الأمهات المعتدين أو المعتدى عليهم، يجتمعون بشكل دوري لتبادل تجاربهم ومشكلاتهم وحلولهم، ويتلقون نصائح وإرشادات من مختصين.
ومجموعات المشورة الفردية هي جلسات خاصة بين المعتدي أو المعتدى عليه، ومستشار نفسي أو اجتماعي، يساعده على فهم سبب سلوكه أو شعوره، ويقدم له إستراتيجيات للتغلب على العنف.
أمام مجموعات العلاج الأسري فهي جلسات جماعية بين كافة أفراد الأسرة المتضررة من العنف، تساعدهم على تحسين علاقاتهم وتواصلهم وتفاهمهم، ويتخللها تدريبات وأنشطة لزيادة الترابط والانسجام فيما بينهم.
وعلى المستوى الدولي، أطلقت عديد المؤسسات مبادرات تهدف إلى رفع وعي وثقافة المجتمعات بخطورة العنف الأسري وسبل مكافحته، مثل إطلاق حملات إعلامية وتثقيفية تنشر الوعي والثقافة بين الأفراد، أو إجراء دراسات وبحوث تنير الرأي العام والسياسي بحقائق وأرقام عن الظاهرة.
من الضروري إجراء أنشطة لزيادة الترابط والانسجام الأسري
ومن هذه المبادرات تلك التي أطلقها الاتحاد الأوروبي عام 2020م، وتقدم دعماً مالياً وفنياً لبرامج مكافحة العنف ضد المرأة بشكل خاص، تشمل المجتمعات العربية، بالشراكة مع منظمات محلية وإقليمية.
وتستهدف هذه المبادرة 3 مجالات رئيسة، هي: تغيير التشريعات والسياسات التي تؤثر على حقوق المرأة، وتعزيز قدرات المؤسسات والجهات المعنية بتقديم الخدمات والحماية للنساء المعنفات، وتوعية الرجال والشباب بأهمية احترام المرأة والتخلي عن العنف.
كما أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) مبادرة عام 2019م، تقدم دعماً مالياً وفنياً لبرامج مكافحة العنف ضد الأطفال في المجتمعات العربية، بالشراكة مع منظمات محلية وإقليمية.
إن العنف الأسري في المجتمعات العربية أصبح ظاهرة متصاعدة، تستوجب التصدي لها بحزم وحكمة، ولا يجوز السكوت عليها أو تبريرها أو غض الطرف عنه، بل مواجهتها بأسلوب علمي منظم، وليس بعشوائية، لأن الأسرة هي أساس المجتمع، وإذا كانت مليئة بالعنف والصراع، فمصير المجتمع هو غياب السلام والتنمية.