لقد استقر في المعرفة الإسلامية أنه لا يكون شيء في الوجود إلا بتقدير محكم من الله سبحانه، وقد قرر أهل التفسير في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ) (الجمعة: 2) أن المقصود بالأميين هم العرب، وفي ذلك إشارة بالغة الوضوح إلى أن اصطفاء الله للعرب واحتفاظهم ببعض المسوغات والخصائص جعلتهم الأمة المؤهلة لتلقي الرسالة الخاتمة وحملها.
وهذا الذي جاء في هذه الآية استنباطاً ورد في الكتاب العزيز مرة أخرة بطريق التصريح عندما قال سبحانه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).
من كل هذا كان فحص مسوغات اختيار الله للعرب ليكونوا محل استقبال الرسالة الخاتمة وحملها إلى العالمين أمراً علمياً بامتياز.
أسباب الاصطفاء
لقد تنوعت مسوغات الاصطفاء، وتوزعت على جملة من الأمور ارتبطت بطبيعة القوم الذين هم العرب، وبطبيعة الجغرافيا التي هي جزيرة العرب، وبطبيعة اللسان آلة البلاغ، التي هي اللغة العربية.
وفيما يلي فحص لهذه الأمور الثلاثة المحورية من أسباب اصطفاء الله تعالى للعرب ليكونوا محل استقبال آخر نسخ الوحي، وليكونوا حملة النور الخاتم وهديه إلى آخر الزمان:
1- اللسان العبقري المميز:
لقد أعلن الكتاب العزيز في غير آية أنه نزل بلسان عربي مبين، يقول تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2) ويقول: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3).
والحقيقة أن التواتر الكمي المحيط بهذه الحقيقة كان مما لفت نظر العلماء منذ القديم، فقرروا أن «العربية» بسبب من هذا التواتر تتحرك بجملة كبيرة من الخصائص أهَّلتها لتكون لغة الكتاب الخاتم، يقول الثعالبي في مقدمة كتابه «فقه اللغة وسر العربية» (تحقيق د. خالد فهمي، دار النشر للجامعات القاهرة 2019، 1/3): «إن من أحب الله تعالى أحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أحب النبي العربي؛ أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، وأعتقد أن العربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء».
وهذا الكلام يشير إلى أن ثمة ربطاً بين طبيعة اللغة العربية التي نزل بها الكتاب العزيز وبناء نوعي للعقل على ما يظهر من التذييل الذي جاءت به الآيتان المذكورتان قبل قليل.
ومن ثم، فإن اختيار العرب كان لسبب جوهري يتعلق بطبيعة اللسان العربي، وهو ما يترتب عليه ما يلي:
أولاً: كان اختيار العربية خطوة ضرورية لتأسيس الإيمان وفق الدليل اللغوي المستكن في طبيعة الخصائص اللغوية للعربية التي تتحرك بقدرات وطاقات معروفة لدى المختصين في دراستها.
ثانياً: كان اختيار العربية ضرورة لإقامة التكاليف الشرعية، وبناء المنظومة الأخلاقية، وتحصيل قوانين العمران البشري وفق الأصول العمرانية القرآنية.
وهذان المسوغان الظاهران يكشفان عن رحمة الله تعالى بالوجود باختيار العرب محلاً لاستقبال نور السماء الخاتم.
وقد تنبه إلى ذلك من القدماء الطوفي (ت 716هـ) في كتابه «الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية»، والغرناطي (ت 869هـ) في كتابه «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام».
2- اختيار العرب بسبب الجغرافيا العبقرية:
يرجع قدر من أسباب اختيار الله تعالى للعرب ليكونوا محلاً لاستقبال الإسلام والدعوة إليه وحمله إلى الدنيا إلى طريقة الجغرافيا، أو طبيعة الموقع الجغرافي وما يستتبعه من أبعاد حاكمة في السياسة والاجتماع الدوليين.
وقد توقف قطاع من العلماء أمام فحص جزيرة العرب لاستجلاء ما كان وراء هذا الاختيار، وبعض العناية بهذا الفحص مرجعه إلى الربط الواضح بين اختيار الله للعرب ليكونوا حملة الإسلام وتجليات ذلك في تعيين جزيرة العرب محلاً لاستقبال الدين العظيم.
وهذه الغاية الدينية وراء اختيار جزيرة العرب بما هو فرع من اختيار العرب كانت مسألة واضحة لدى الجغرافيين، وهو ما نجد آثاره لدى كوراتشكوفسكي، في كتابه «الأدب الجغرافي»، ولدى مصطفى الشهابي في كتابه «الجغرافيون العرب»، ومعنى هذا ظاهر في أن اختيار جزيرة العرب لهذه لغاية الدينية ارتبط بما يلي:
أولاً: الإعانة على تحقيق غاية تشريعية أنتجت العناية بالتصنيف في جغرافية طرق الحج، وما يتعلق بها من بعض هذه العبادات بالمواقيت المكانية على ما أشار إليه د. عبدالعزيز كامل في «طريق الهجرة».
ثانياً: الإعانة على تحقيق غاية دعوية تتعلق بتوسط موقع الجزيرة العربية على خريطة العالم القديم، بوصفها قلب هذا العالم، وهو بعض الملمح من قوله تعالى: (وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الأنعام: 92).
وقد أنتج هذا التنبه لهذا السبب من أسباب اختيار العرب لحمل رسالة الله الخاتمة، وظهور حقل معرفي مستقل يتعلق بدراسة جغرافية جزيرة العرب على ما نجد في مثل «صفة جزيرة العربي» للهمداني.
كما أسهم هذا التنبه في ظهور حقل معرفي يتعلق بما يمكن تسميته بجغرافية الحج من مثل كتاب «المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة»، للحربي (ت 258هـ).
3- اختيار العرب بسبب المنظومة الأخلاقية والطبيعة النفسية والاجتماعية لهم:
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (حديث صحيح، مكارم الأخلاق للخرائطي، ص2، والأدب المفرد للبخاري، ص 273)؛ وهو ما يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بعث يعلن أنه كانت هناك منظومة أخلاقية جاء فأعلى بناءها وتممها وهذبها.
وفي هذا تثمين لنطاق أخلاقي كان في خلفية اختيار العرب لحمل الرسالة بسبب حوزهم المنظومة الأخلاقية والطبيعة النفسية والاجتماعية المرادة لنشر الإسلام، وهي:
أولاً: الكرم، والضيافة العامة، والجود، والإيثار على النفس، على ما قرره ابن قتيبة في كتابه «فضل العرب والتنبيه على علومها» (تحقيق د. وليد خالص، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1998م، ص 66).
ثانياً: الشجاعة، وعزة النفس، والحمية، وأخلاق الفروسية، وهي مسألة مهمة جدًا لحمل الدين والسعي به، والجهاد من أجله. (انظر: فضل العرب، ص83).
ثالثاً: الإيمان ببقايا من الحنفية السمحة، ومعرفة الربوبية، وشيوع إيمانهم وتعظيمهم بيت الله الحرام، والحج إليه؛ وهي بعض ما سوف يرويه الإسلام، ويعظم. (انظر: فضل العرب، ص87).
ثالثاً: الاحتفاظ ببقايا سنن الفطرة من الالتزام بالختان والغسل وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والمصاهرة. (انظر: فضل العرب، ص91).
وقد كان من آثار هذه العناية بهذا التجلي لاختيار العرب بسبب طبيعتهم التنصيف في فضل العرب ومناقبهم، من مثل كتاب «فضل العرب والتنبيه على علومها» لابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ).
آثار الوعي باختيار الله للعرب محلاً للرسالة الخاتمة
لقد أثمر الوعي المعرفي بقضية اختيار الله تعالى للعرب ليكونوا محلاً لاستقبال الإسلام والحركة به والدعوة إليه آثاراً ممتدة في كثير من الحقول المعرفة، يمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً: حقل التفسير القرآني الذي استقر فيه ضرورة تحصيل عوائد العرب وتقاليدهم، بوصف ذلك شرطاً للنشاط التفسيري.
ثانياً: حقل اللسانيات العربية، وما كان من آثاره الإيجابية في هذا المجال وكان سبباً في جمع اللغة، ودراسة اللهجات العربية القديمة.. إلخ.
ثالثاً: حقل الجغرافيا العربية، ودراسة موقعها، وطرق الحج والهجرة.
رابعاً: حقل دراسات الأنثروبولوجيا العربية، وما يتعلق بطبيعة العربي النفسية والعقلية.
وليكن واضحاً أن اختيار النبي العربي منح هؤلاء العرب شرفاً باقياً على الزمان، وأن نزول القرآن الكريم بالعربية كتب للعرب خلوداً باقياً.