انخرطت المدرسة الإصلاحية المعاصرة بقوة في الجدل المثار حول مكانة المرأة ووضعيتها في المجتمعات الإسلامية، إذ ليس هناك رمز من رموزها إلا وأفرد مسألة المرأة كتاباً أو تناولها ضمناً في مصنفاته؛ إذ كتب فيها الغزالي والقرضاوي وعمارة والريسوني وغيرهم، ومع هذا فما كتبه عبدالحليم أبو شقة في كتابه الموسوعي «تحرير المرأة في عصر الرسالة» يظل عملاً متفرداً لدواعٍ عدة، منها: منها شموليته؛ فهو يقدم دراسة جامعة للنص الحديثي، فلا يكتفي بحديث من هنا أو هناك، وإنما يقدم جميع ما ورد في الصحيحين واتصل بالنساء، ومنها تضلعه بعلم الحديث حيث درس على يد الشيخ ناصر الدين الألباني زمناً وكان له اشتغال بالسُّنة.
حول المنهج
صدر «تحرير المرأة في عصر الرسالة» عام 1990م في 6 مجلدات، اختص كل منها بموضوع، إلا أن تركيز الكتاب بصفة عامة كان منصباً على مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية، وتفنيد حجج المعارضين لها، وهو ما عالجه في المجلدين الثاني والثالث، وأما الحياة الأسرية فأرجأ الحديث عنها إلى المجلد الخامس، على غير عادة الإسلاميين الذين يفتتحون حديثهم عن المرأة بدورها من خلال الأسرة، واختص المجلد السادس والأخير بموضوع الحياة الجنسية الذي يتحرج الإسلاميون من مناقشته وليس لهم أي أدبيات سابقة فيه.
يفسر أبو شقة في مقدمة الكتاب دواعي تركيزه على السُّنة بحيث صارت هي عماد البحث قائلاً: إذا كان الاستهداء بالهدي النبوي أمراً مطلوباً وضرورياً لتصحيح مسار حياتنا عامة، فهو أشد طلباً وضرورة في مجال المرأة، وذلك لأن «الهدي النبوي في هذا المجال قد أصابه ما يشبه التغيير الجذري بل المحق الكامل» (1/ 43)، فالسُّنة الفعلية أو ما يطلق عليه «التطبيقات العملية» لمشاركة المرأة في العهد النبوي أخذت تتضاءل وتنزوي من مجال التطبيق العملي على مدار العصور، أما السُّنة القولية فقد طويت في بطون الكتب «وطمس معالمها غبار كثيف من تأويلات الرجال».
وتأسيساً على ذلك، استهدف عمل أبو شقة بحث مسألة قضايا المرأة المتنازع عليها ومعالجتها انطلاقاً من النص الحديثي الذي أدى أكبر الأثر في صياغة وتحديد دور النساء المسلمات في المجتمعات الإسلامية، وتحقيقاً لهذه الغاية صاغ منهجية تتألف من بضعة عناصر:
– جمع النصوص المتعلقة بالمرأة من المدونة الحديثية، حيث اتجه في أول الأمر إلى استيعاب أكبر قدر من كتب السُّنة، وجمع عدداً لا يحصى منها، ثم رأى الاقتصار على ما ورد في الصحيحين مراعاة لعامل الزمن وتقديراً للمكانة التي يتمتع بها الصحيحان.
– سرد النصوص بعد تصنيفها ضمن فئات محددة وإيرادها دون تعليق، فهي ناطقة بما يريد أن يقوله للناس، شارحة نفسها بنفسها، كما يقول القرضاوي (22/ 1)، لكنه ربما اضطر إلى التعليق على النصوص -وخصوصاً المُشكلة- مستنبطا ًأو مرجحاً أو موضحاً.
– الاشتباك مع المعارضين لمشاركة المرأة في المجال العام، وتفنيد حججهم مستنداً في ذلك إلى النص الحديثي الذي ينطلق منه هؤلاء.
– الحرص في بعض الأحيان على الاستعانة بالشواهد الفقهية، وجلها منتقاة من شرح الحافظ ابن حجر لصحيح البخاري في كتابه «فتح الباري»، وغرضها دعم المعنى الذي توصل إليه المؤلف الذي لم يتوسع في نقل آراء الفقهاء لئلا يخرج به ذلك عن منهجه في التأويل النصي إلى منهج المقارنة بين أقوال الفقهاء والترجيح بينها.
نماذج تطبيقية للتأويل
يتجلى منهج أبو شقة التأويلي بصورة عملية في تعامله مع النصوص الصحيحة ذات الحساسية التي تم توظيفها توظيفاً مزدوجاً؛ إذ اتخذها البعض -خصوصاً الغربيين- وسيلة للطعن في الإسلام وموقفه من النساء، بينما اتكأ عليها نفر من المسلمين للتضييق على النساء.
وفي هذا السياق، توقف أمام ثلاثة أحاديث صحيحة عن شخصية المرأة أساء البعض فهمها وتطبيقها، كما يقول، وهي: حديث النساء أكثر أهل النار، وحديث ناقصات عقل ودين، وحديث الضلع الأعوج، وهذه الأحاديث الثلاثة وردت في البخاري، ومسلم، ورواها ثلاثة من صحابة رسول الله ممن يوثق بهم، وهم على الترتيب: عبدالله بن عباس، أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، رضي الله عنهم.
يتوقف أبو شقة في الحديث الأول أمام مسألتين؛ الأولى: دلالة الحديث، وهل يعني أن الشر متأصل في النساء لغلبة الشر على فطرتهن دون الرجال؟ وهو يجيب بالنفي مستنداً إلى الدليل العقلي؛ لأنهن إن كان الشر فطرة فيهن كما يُظن لما عوقبن عليه، إذ كيف يُعاقبن على أمر فطري فيهن، والثانية ما الذي يفيده المسلمون؛ رجالاً ونساء، من الحديث، وهو يفترض أن الفائدة الكبرى اتقاء النار، ومن خلال ذلك يقوم بتمديد النص وتعديته وجعله يخاطب الرجال كما النساء، حيث يمضي موضحاً كيف يمكن للنساء اتقاء النار وكيف يتقيها الرجال.
أما الحديث الثاني (نقص النساء)، فيستغرق منه جهداً مضاعفاً؛ لأنه يشكل حجر الزاوية في دعوى دونية النساء، وهو ينظر إليه من ثلاث نواحٍ: ناحية المناسبة التي قيل فيها وهي عظة للنساء ألقيت في يوم عيد، ومن المستبعد أن الرسول الكريم الموصوف بالخلق العظيم أن يحط من كرامة النساء أو ينتقص من شخصيتهن في هذه المناسبة البهيجة حسبما استنتج، ناحية من وجه إليه الخطاب؛ فقد كنَّ جماعة من نساء المدينة وأغلبهن من الأنصار اللواتي وصفهن عمر بن الخطاب بأنهن يغلبن رجالهن، وأن المهاجرات قد تأثرن بخلقهن، وناحية الصياغة اللغوية للنص التي ارتأى أبو شقة أنها «ليست صيغة تقرير قاعدة عامة أو حكم عام»، وإنما هي أقرب إلى التعبير عن تعجب رسول الله من التناقض القائم في ظاهرة تغلُّب النساء رغم ضعفهن.
والحديث الثالث والأخير (الضلع الأعوج)؛ وفيه يذهب إلى أن نص الحديث لم يبين مجال العوج، ولا مداه، وإنما أشار إلى العوج الخِلقي، ومن ثم راح يتساءل: «هل يمكن بناء على الواقع المشاهد أن نفسر العوج بسرعة الانفعال وشدته أو بفرط الحساسية وتقلب المزاج؟»، مردفاً أن العوج أصلاً يقابل الاستقامة، فإذا كان اتزان الانفعال وضبطه استقامة، فإن سرعة الانفعال وشدته عوج، وإذا كان ضبط الإنسان لعواطفه استقامة فغلبة العاطفة عليه عوج. (288/ 1)، وهو يدعم تأويله بثلاثة شواهد؛ الأول: ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء: «تكثرن اللعن وتكفرن العشير»، فهذا سلوك عادة ما يكون ساعة غضب، والثاني: أننا لا نرى أثراً للعوج من مكر أو خديعة في سلوكيات الصحابيات، بل هن نماذج للاستقامة والبراءة، والثالث: أنه لا يعقل أن نوكل الإشراف على تربية أولادنا إلى إنسان ذي طبيعة ملتوية.
وعلى الرغم من وقوعه في مآخذ عدة، يمكن القول: إن محاولة الشيخ أبو شقة هي أنضج المحاولات الإسلامية المعاصرة في تأويل النص المتعلق بالنساء، سيما أنها تنطلق من داخل الأرضية الإسلامية، وتستند إلى الأدوات المعرفية التي أقرها علماء السلف.