ميز الله الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل ليفكر ويفهم ويختار، وبيَّن الإسلام أهمية العقل بجعله مناط التكليف، فأسقط التكليف عن الطفل ومن بعقله مرض، وأسس للمسلم قواعد التفكير السليمة في تصوره الكلي عن الإله وعالم الغيب، وعن الوجود ومنتهاه، وعن نفسه وعلاقته بما حوله، وهذا من لطف الله ورحمته؛ فمن يعلم هذا أفضل من الخالق؟! (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 14)، فأي اتباع لموروثات أو نظريات فلسفية أو غيرها مما تقدم بأنها فسرت الوجود إنما هو اتباع لفروض ظنية وترك للحق، يقول الحق تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28)، ومن هنا جاءت الحاجة لتأسيس عقل المسلم بقواعد التفكير التي قررها الحق سبحانه وتعالى، ومنها:
1- رفض التقليد المطلق واتباع الدليل:
التقليد المطلق هو مانع للعقل من النظر والتدبر في حقيقة الأمور، فيظل حبيسًا لإرثه، مُقيدًا عن تصحيح مساراته، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، فبين أن اتباع الآباء حُجة واهية يستتر خلفها رفض النفس للحق، فمن أهم قواعد التفكير التي لا بد أن يؤسس عليها عقل المسلم التفكير الناقد، وعدم التقولب بقالب فكري واحد، فالأصل اتباع الدليل لا الرجال التي تصيب وتخطئ، والنفوس تتقلبها الفتن ولكن الحق ثابت لا يتبدل أو يتغير.
2- وجود مرجعية ثابتة للفكر:
يحتاج العقل إلى ثوابت يستند إليها أثناء ممارسة عملية التفكير، ويمثل الوحي تلك المرجعية لفكر المسلم، فهو يُسدد العقل ويوجهه لخيري الآخرة والدنيا، ويضع إطارًا لتفكيره بدلًا من تيه العقل في صحارٍ لا نهاية لها، فكثير من العقول الفلسفية والعلمية تلحد لأنها لم تُوضع لها بوصلة توجهها لأي الطرق تسلك ومتى تتوقف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فيقول: مَنْ خَلَقَ كذا؟ حَتَّى يقول: مَنْ خَلَق رَبَّك؟ فَإِذَا بَلَغه، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَه» (رواه الشيخان)، فهذه مرجعية ثابتة لفكر المسلم حيث أُمر بالتفكر في مخلوقات الله، ولكن حين يصل إلى الذات الإلهية يأمره بالتوقف، فهذا ما يحمي العقل من متاهات الشك والإلحاد، ويُوفر الوقت والجهد المبذولين ليجد وجهته.
يقول د. مصطفى محمود، في كتابه «رحلتي من الشك لليقين»: «احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين»، فهل أحسن للعقل من مرجعية تخبره عن الله والإنسان والحياة والموت دون إضاعة سنوات من عمره بلا فائدة وتنقذه من الضلال إن سلم واتبع.
3- تكوين المسؤولية الفكرية:
غرس المسؤولية الفكرية لعقل المسلم يجعله يهتم بشغله بالمعالي من الأمور ويترك سفاسفها، فيبذل وسعه لتحصيل المعارف المختلفة والاستفادة منها، ويُحدد أهدافه بوضوح ويعمل على تحقيقها، فيساعده هذا الهم برد الرائج في محيطه مما يضيع وقته ويضعف نشاطه الفكري، ويكفي أسوة لعقل المسلم ما فعله النبي صلي الله عليه وسلم بتركه الرائج في مجتمعه واعتزاله في غار حراء ليتفكر ويبحث عما أهمه.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء..».
فليس الرائج صحيحًا ضرورةً، وكم يحتاج العقل هذا الزمان للخلوة بعيداً عن سطوة مواقع التواصل وهيمنة التفاهات على العقول بما يشغلها ويُضعف قدرتها على التفكير والتحليل والنقد.
4- التصنيف والتجريد والتحيز:
خلق الله العقل ووهبه القدرة على فهم علاقات الشبه أو الاختلاف بين الأشياء وتنظيمها لفئات، وكذلك قدرته على تجريد الأشياء بتجاوز صورتها المادية إلى الوصفية، وبين طبيعة العقل في التحيز إلى فكرة أو جماعة أو ضدها، ففي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13) توجيه لعقل المسلم إلى قاعدة التصنيف من خلال فهم العلاقات القَبَلِيّة وما يترتب عليها من تعاون وتعارف وتوارث، ثم بين أهمية التجريد في فهم وصف التقوى وجعلها مناطًا للتحيز لا النسب، فلا بد أن يمر العقل بمرحلتي التصنيف والتجريد ثم التحيز، وأي كلام عن عدم التحيز أمر خيالي، ولكن ضبط بوصلة التفكير لتُبنى التحيزات السليمة الأمر الواقعي الذي وجهت إليه الشريعة.
5- اللغة وعاء الفكر:
تُختزن المشاعر والمفاهيم والذكريات في العقل على شكل كلمات وجمل، ولن يستطيع العقل صياغة أفكاره وإيصالها لغيره إلا من خلال كلمات دقيقة مبينة، كما أن قوة التفكير وخصوبته تزداد بقوة اللغة، فباللغة يستطيع العقل فهم المعارف المختلفة وإدراك الفروق الدلالية الدقيقة بين الكلمات مثل «قمح، حنطة، بر»، فيزيده هذا من الفهم العميق لبواطن الأشياء، ثم يدفه إلى الإبداع، على عكس ضعف اللغة الذي يجعل العقل خافتًا لعدم استطاعته إيصال أفكاره بوضوح.
يقول الحق تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقد فسر ابن كثير الآية قائلاً: «ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات»، فكلما قويت اللغة واشتدت واستطاع صاحبها أن يؤدي المعاني التي في نفسه وعقله؛ تحرر فكره وأصاب الحق متجردًا.
وفي الختام نقول: إن الإسلام حفظ حرية العقل في إطار الشرع، ووضع قواعد لحمايته من سيطرة أي سلطة ضالة، ووضع بوصلة لوجهته، وعلمه رد ما ليس عليه برهان، وإن هذه العناية من الإسلام بالعقل يدفع إلى ضرورة تعلم قواعد التفكير السليمة والاهتمام بصناعة مسلم مفكر يعي نفسه جيدًا ثم ما حوله وما ينبغي فعله حتى يحقق ما خلقه الله لأجله.