يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الحادي عشر بعنوان «الثناء على المدعوين».
يقصد بـ«الثناء على المدعوين» المدح الصادق للشخص بما فيه، قبل توجيهه، من أجل تهيئته للنصيحة، فإن هذا يكون أدعى لقبولها.
التأصيل الشرعي
إن الناظر في القرآن الكريم يجد أنه يدعو إلى إعطاء كل ذي حق حقه، وعدم النقص منه، حيث قال تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (الشعراء: 183)، وقد جاءت الأشياء هنا نكرة؛ لتفيد العموم، والمعنى: ولا تنقصوا الناس أي شيء مما يكون لهم، سواء كان هذا الشيء مادياً أم معنوياً، فلا بد من الاعتراف به وتقديره والوفاء به.
كما اشتمل القرآن الكريم على مدح الأفراد بما فيهم من الصفات الحسنة، حيث قال تعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود: 75)، وقال عن أنبيائه سليمان وأيوب عليهما السلام: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 30).
السُّنة النبوية أكدت مشروعية الثناء على المدعوين بما فيهم من جميل الصفات
كما تحدث الحق سبحانه وتعالى عن محاسن المدعوين في إطار النصح والتوجيه، فعندما دعا سيدنا شعيب قومه، ذكر لهم ما يتميزون به من حسن الحال وسعة الرزق، فقال: (إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) (هود: 84)، وعندما ذكر الحق سبحانه وتعالى أهل الكتاب مدح من يتسم منهم بالأمانة، فقال: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (آل عمران: 75).
وقد أكدت السُّنة النبوية مشروعية الثناء على المدعوين بما فيهم من جميل الصفات، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على القبائل التي سابقت إلى الإسلام ودخلت فيه، وهي: جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، فقال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها»(1)، كما أثنى صلى الله عليه وسلم على النجاشي ملك الحبشة فقال للمستضعفين من الصحابة: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظْلَم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»(2).
وكان النجاشي يومها على النصرانية، لكن الرسول الكريم أثنى عليه بما هو فيه، ومن ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على المدعو بجميل ما هو فيه ما قاله لأشج عبدالقيس: «إِنَّ فِيكَ خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(3).
كما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب، حين سأله: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»، قَالَ: قُلْتُ: «اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحي القيوم»، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «وَاللَّهِ، لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر»(4)؛ أي ليكن العلم هنيئاً لك، وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه بما يستحق.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»(5)، وفي هذا ثناء عليهم بجميل ما يتميزون به.
الثناء على الآخرين يسهم بالوصول إلى قلوبهم وإشباع رغباتهم ومن ثم جذبهم
وعندما أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَ قِبَاءَ، قال: «يا مَعشرَ الأَنصارِ، إنَّ اللَّهَ قَد أثنى عليكُم في الطُّهورِ، فما طُهورُكُم؟»، قالوا: نتَوضَّأُ للصَّلاةِ، ونغتَسلُ منَ الجَنابةِ، ونَستَنجي بالماءِ، قالَ: «فَهوَ ذاكَ، فعليكُموه»(6)، ففي هذه الشواهد ما يدل على أن الداعية إذا رأى في الناس خيراً أثنى عليه ودعاهم إليه.
التوظيف النفسي
يسهم الثناء الصادق على الآخرين في الوصول إلى قلوبهم وإشباع رغباتهم، ومن ثم سرعة جذبهم، فقد أكدت الدراسات النفسية أن أعمق سمة في شخصية الإنسان هي رغبته في أن يكون موضع تقدير، حيث إن التقدير يجعل المرء يطلق العنان لكبرى قدراته ومهاراته، فالثناء الصادق يحقق نتائج لا يمكن تصورها، ويزيد من قوة جذبك للآخرين(7).
التوظيف الدعوي
يحتاج الثناء على المدعوين إلى ضوابط مهمة حتى يؤدي وظيفته الدعوية، ومن هذه الضوابط(8):
أولاً: موافقة القول للحقيقة؛ بمعنى أن يكون الممدوح أهلاً لما يُقال فيه، ولا يتجاوز المادح الصفات الحقيقية الصادقة في الممدوح.
ثانياً: التوسط وعدم المبالغة في المدح؛ بحيث لا يرفع المادح الممدوح فوق منزلته، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»(9).
ثالثاً: الأمن من فتنة الممدوح؛ حيث إن المدح قد يكون فتنة للممدوح، فيقع في معصية كالكبر والاستعلاء أو الفتور عن العمل الصالح.
رابعاً: تقييد المدح بقول: «أَحْسِبُ فُلَاناً، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي علَى اللهِ أَحَدًا»(10)، فإن هذا من الأدب مع الله في رد علم السرائر إليه فهو أعلم بمن اتقى، والأحكام تجري بالظاهر والله يتولى السرائر.
فإذا أمِن الداعية الفتنة وتوسط في ثنائه ولم يتجاوز الحقيقة فيه؛ فإن هذا الثناء يسهم في تشجيع المدعو على الاستجابة أو الاستزادة من الخير.
الدليل على التأثير الناجح
يعد الثناء على جميل ما يتحلى به المدعو ركيزة دعوية، تسهم في استجابة المدعو واستزادته من الخير، ومن الأمثلة التي تدل على دور الثناء في استجابة المدعو ما كان من الرسول حين دخل مكة في عمرة القضاء من العام السابع للهجرة، فسأل عن خالد بن الوليد، فأجاب أخوه الوليد بن الوليد: يأتي به الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مثله يجهل الإسلام، ولو جعل نكايته وقوته مع المسلمين كان خيراً له، ولقدمناه على غيره».
الثناء يحرّك القلوب الساكنة ويوجه العقول الخاملة ويبعث القدرات الكامنة للانطلاق
فخرج الوليد يبحث عن أخيه، فلم يجده، فأرسل له رسالة يخبره فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عنه وأثنى عليه، ثم قال له: أما بعد، فإني لم أَرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد، فاستدرك يا أخي ما فاتك من مواطن صالحة.
فلما قرأ خالد الرسالة سُرَّ بها سروراً كبيراً، وأعجبه مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فتشجع وأسلم وانطلق إلى المدينة، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم فسلم عليه بالنبوة، فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم السلام بوجه طلق، وقال له: «الحمد لله الذي هداك، وقد كنت أرى لك عقلاً لا يسلمك إلا إلى الخير»، ففرح خالد بذلك، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام(11).
ومن الأمثلة التي تدل على دور الثناء في استزادة المدعو من الخير ما ثبت أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما رأى في منامه كأن ملكين أخذاه وذهبا به إلى النار، فجعل يقول: أعوذ بالله من النار، فلقيه ملك آخر، وقال له: لَمْ تُرَعْ (يعني لا تخف)، فقص رؤياه على السيدة حفصة، فقصَّتْها على رسول الله، فقال: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُاللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ»، فَكَانَ عبدالله بَعْدُ لَا ينام من الليل إلا قليلاً(12)، فقد حثّه الرسول صلى الله عليه وسلم على قيام الليل في ثوب الثناء عليه، وجاءت الثمرة في استزادته من صلاة القيام، حتى إنه لم يتركه بعد ذلك إلا قليلاً.
والخلاصة أن الثناء على المدعو بجميل ما هو فيه إنما هو منهج قرآني وتطبيق نبوي وأساس دعوي، من شأنه أن يحرّك القلوب الساكنة، ويوجه العقول الخاملة، ويبعث القدرات الكامنة للانطلاق نحو الاستجابة الفاعلة والحركة العاملة والهداية الفاضلة.
_________________________
(1) صحيح البخاري، رقم (3323).
(2) سيرة ابن هشام، (1/ 280).
(3) صحيح مسلم، رقم (17).
(4) صحيح مسلم، رقم (810).
(5) أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح، رقم (13991).
(6) أخرجه ابن ماجة بسند صحيح، رقم (290).
(7) مقومات التجربة الصينية: لوه تشونغ مين، ترجمة: حسانين فهمي، ص 128.
(8) راجع: أهمية أسلوب المدح وضوابطه، د. حمود الحارثي، ص 11.
(9) صحيح البخاري، رقم (3445).
(10) صحيح البخاري، رقم (2662).
(11) المغازي، للواقدي، ص 198.
(12) صحيح البخاري، رقم (1070).