هناك طبائع للاستبداد، وأخرى للحرية، وهناك من ينشؤون عاشقين للحرية والكرامة، رافضين للظلم والطغيان والذل والخضوع، وآخرون لم يعتادوا الحرية، ولم يمارسوها، ولم يتفتح وعيهم على معانيها، حتى ليخيل إليهم أن الحرية إثم، وأن انحناء الظهر هو أساس الحياة.
ولعل من عوامل اختيار أمة العرب لحملة رسالة الإسلام تعشقهم للحرية، فهم لم يخضعوا لسلطة قاهرة أضرت بوعيهم للحرية، وإنما كانت سلطة القبيلة –في الغالب- هي سلطة اعتزاز وانتماء لا سلطة قهر وإذلال، وتكشف تجربة الإسلام التاريخية أن ازدهار الإسلام لا يكون إلا مع الحرية، فالأرض الطافحة بالاستبداد والذل والقهر لا تستطيع جذور هذا الدين أن تتعمق فيها، ولعل هذا ما أقره القرآن الكريم في مبدئه العظيم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، فالقمع والإكراه لا يرضاه الإسلام ولا يقره، حتى ولو كان من أجله.
المجتمع أساس الشورى
تنشئة النفوس على الشورى الأساس للممارسة الحرية في المجال السياسي، فكما أنه «لا حرية بدون أحرار»، و«لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين»، كذلك «لا شورى بدون شوريين»، والحرية والشورى، كقيمة وممارسة، لن تتحقق ولن تتجذر في المجال السياسي إلا إذا تحققت ومورست في المجال الاجتماعي، وفي أهم مؤسساته، وهي الأسرة، وبدون شورى في المجال الاجتماعي لن توجد شورى في المجال السياسي، ولذلك كان عمرو بن العاص رضي الله عنه محقاً عندما أبدى إعجابه بالروم، قائلاً: «أمنعهم من ظلم الملوك»؛ أي أن الثقافة السياسية والاجتماعية التي ترسخت عندهم هي رفض الظلم ومقاومته، وسرعة النهوض لإجهاض الحالة الاستبدادية.
وقد أدرك العلَّامة ابن خلدون تأثير ثقافة القهر والعسف في الجانب الاجتماعي والتعليمي ودورها في تهيئة النفوس لتقبل الاستبداد والظلم، وعدم التأفف من معايشته، فقال: «من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفـًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلُقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين».
هذا الارتكاس النفسي الذي تحدث عنه ابن خلدون لا يتوقف تأثيره عند العملية التعليمية أو الاجتماعية، وإنما تتسع دوائره لتشمل كل أنشطة المجتمع ومؤسساته، بما فيها الجانب السياسي، فتتعمق ثقافة قبول القهر، وحكم الفرد، واستبداد الأقلية، وتغييب الشورى، وهو معنى تحدث عنه عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» بقوله: «الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً؛ لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم»، فأخلاق الخسة والدناءة من إفرازات تغييب الحرية والشورى، ومع هذا التغيب يظهر المستبدون في كل ناحية، في البيوت، وأماكن العمل، ودور العبادة، وهيئات الدولة، ومعاهد العلم والتعليم، ومن أضرار تلك الروح المجافية للحرية والشورى أن تلك النفوس تتغير شخصيتها، حتى إن الفرد لا يستطيع أن يفرق بين عدوه وأبيه؛ لذا تسود أخلاق السفلة لتكون هي الأخلاق الفاعلة والحاكمة في المجتمع، وكما يقول الكوكبي: «أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً».
ثقافة الشورى ضرورة
يحتاج الإنسان لقوة أخلاقية حتى يرى الشر والخير بجلاء، ولا تتأتى تلك القوة إلا مع استقامة النفس، ووجود منظومة من القيم الاعتقادية تضع المعايير للسلوك، وتلك الاستقامة النفسية لا تتحقق إلا في أجواء الحرية، وذلك لا يتم إلا برفع وصاية الإنسان عن غيره ما دام قادراً على التفكير، وثقافة الشورى قادرة على تهيئة النفس والمجتمع لممارسة الحرية وحمايتها؛ لذا أولى الإسلام عنايته بالشورى كمبدأ وممارسة في المجتمع قبل أن تكون نهجاً وفلسفة للحكم، ونجد ذلك في أمرين كبيرين في النص القرآني:
الأول: أن أول آيات الشورى الثلاث، نزلت في المرحلة المكية، قبل أن يتشكل للإسلام سلطة أو تُنشأ له دولة، فنص القرآن كما جاء في سورة «الشورى» على مبدأ الشورى كمبدأ عام في الحياة الإسلامية، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى: 38)، وفي تفسير «الظلال» أن النص على أن «أمرهم شورى بينهم» جاء ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وأن هذا الطابع أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد فالدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية، ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيه.
الثاني: تتجلى أحد مجالات الشورى الاجتماعية في الجانب الأسرى، إذ إن النص القرآني أمر بالتشاور بين الوالدين في مسألة إرضاع الطفل وفطامه، فلا يصح أن يستبد أحدهما بتلك المسألة، كما جاء في الآية: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة: 233)، جاء في تفسير «المنار»: وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُنَا إِلَى الْمُشَاوَرَةِ فِي أَدْنَى أَعْمَالِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَلَا يُبِيحُ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ الِاسْتِبْدَادَ بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ، فَهَلْ يُبِيحُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا، وَأَمْرِ تَرْبِيَتِهَا وَإِقَامَةُ الْعَدْلِ فِيهَا أَعْسَرُ، وَرَحْمَةُ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْمُلُوكِ دُونَ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْوَلَدِ وَأَنْقَصُ!
ويقرر الإمام محمد عبده حقيقة مهمة في الثقافة الشورية، وهي أن أفضل القوانين وأعظمها فائدة هو الصادر عن رأي الأمة العام، أعني المؤسس على مبادئ الشورى، وأن الشورى لا تنجح إلا من كان بينهم رأي عام، ثم يقول: إن استعداد الناس لأن ينهجوا المنهج الشوري غير متوقف على أن يكونوا متدربين في البحث والنظر على أصول الجدل المقررة لدى أهله، بل يكفي كونهم نصبوا أنفسهم وطمحت أبصارهم للحق، وضبط المصالح على نظام موافق لمصالح البلاد وأحوال العباد.
والثقافة الشورية من آليات الصناعة الثقيلة للوعي في المجتمع المسلم، لتتجسد في ثقافة تتغلغل في كل مفاصل المجتمع ومؤسساته، وربما كانت التربية على الشورى من معالم المنهج الإصلاحي لمدرسة الوسطية الإسلامية في العصر الحديث، فقد رأت المدرسة أن الإصلاح لا يؤتي ثمارها إلا إذا تربى أبناء الأمة على الشورى والحرية، وهذا التدرج يساهم في قمع العادات والأخلاق الاستبدادية، فإذا اعتاد الناس ممارسة الشورى انخلعوا من عاداتهم القديمة في الخنوع والخضوع والأفكار المحنطة إلى ما هو أرقى وهم لا يشعرون بتسلل الحرية والثقافة الشورية إلى طباعهم.