لن ينسى التاريخ يوم السابع من أكتوبر باعتباره اليوم الذي شهد أكبر هزة في تاريخ المنطقة طوال أكثر من مائة عام منذ أن سقطت فلسطين بيد الاحتلال البريطاني الذي سلمها لدولة الاحتلال عشية النكبة الفلسطينية.
ذلك أن ما جرى صباح عملية «طوفان الأقصى» لا يمكن فهمه وتحليله واستيعابه بالمقومات الطبيعية المعروفة لدى المؤرخين، ولا سيما مؤرخي الحروب.
إذ كيف لمجموعة من المقاومين الذين لا يملكون جيشاً ولا عتاداً يقارن -مجرد مقارنة- بما تملكه دولة الاحتلال أن يخترقوا السياج الأمني «الإسرائيلي» المحيط بغزة، المعروف بأنه مما لا يمكن اختراقه، ثم يدخلوا قلب المعسكرات والمستوطنات بما بدا أنه في منتهى السهولة؟ لا بد أن يكون قد سبقه شهور من التخطيط والتحضير.
وبغض النظر عن رأي أي جهة فيما جرى (سواء في بلادنا أو في الغرب)، فإنه لا يسع المراقب إلا أن يقف متأملاً في مشهد المعركة غير المتكافئة، وما أدت إليه من نتائج يمكن أن تسمى انتصاراً مستحيلاً، بالرغم من محدودية الإمكانيات لدى الفلسطينيين في وجه واحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم وأكثرها تسليحاً.
وفي الحقيقة، فإن الدارس في التاريخ ربما يكون أقل الفئات التي تدرس هذه الأحداث استغراباً لنتائجها، فالتاريخ يعلمنا أن فكرة تحقيق الانتصار المستحيل عبر التاريخ ليست مستحيلةً حقاً، وإنما هي ممكنة، بل وحدثت في كثير من المحطات التاريخية للبشرية.
فثبات المسلمين في معركة «مؤتة» في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رغم الفارق العدد الضخم بين المسلمين والروم يعد مستحيلاً عقلاً ومنطقاً في أدبيات الحروب، إلا أنه حصل بفضل الخطة البسيطة لخالد بن الوليد رضي الله عنه.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن إحدى محطات الانتصار المستحيل البارزة بين القوى غير المتكافئة على سبيل المثال معركة «القادسية» الكبرى في العراق، التي جرت بين قوتين غير متكافئتين نهائياً، فالمسلمون في تلك المعركة لم تزد أعدادهم في أفضل الأحوال على 40 ألف مقاتل، ليواجهوا أكثر من 200 ألف جندي فارسي مسلحين بالفيلة التي كانت سلاحاً غير معروف عند العرب في ذلك الوقت، وبالرغم من ذلك انتصر المسلمون بعد 4 أيام من القتال العنيف بين الطرفين، مما فتح الطريق فوراً بعد نهاية المعركة إلى المدائن عاصمة الإمبراطورية الفارسية.
والكلام ذاته كان ينطبق بشكل أو بآخر على معركة «اليرموك»، ومعركة «عين جالوت»، وغيرها الكثير من معارك المسلمين التي بدا فيها وكأن الانتصار مستحيل، لكنه حصل.
وللحق، مخطئ من يظن أن فكرة الانتصار المستحيل كانت حكراً على المسلمين، فتاريخ الأمم الأخرى حافل بعشرات الأمثلة على ذلك، فمنها على سبيل المثال معركة «براونستاون» الشهيرة عام 1812م، التي جرت بين قوات الولايات المتحدة الأمريكية حديثة العهد في ذلك الوقت من ناحية، وقوات ما كان يعرف باسم «كونفدرالية تيكومسيه» التي كانت تتكون من السكان الأمريكيين الأصليين في منطقة البحيرات العظمى من ناحية أخرى، وكان الفارق بين الطرفين واضحاً، فبينما كانت القوات الأمريكية في الموقع 200 جندي مسلح، لم تزد قوات السكان الأصليين على 25 شخصاً، وبرغم هذا الفارق الكبير، فإن قوات السكان الأصليين الصغيرة باغتت القوات الأمريكية أثناء محاولة الأخيرة المرور في نهر براونستاون، فاضطرت تلك القوات للتراجع والفرار تحت تأثير الصدمة، وخسرت في تلك المعركة 18 قتيلاً وفقدت 70 جندياً لم يعرف مصيرهم! فيما لم يفقد الأمريكيون الأصليون إلا شخصاً واحداً فقط.
وكذلك يمكن الحديث عن معركة «بوابة با» التي جرت في نيوزيلندا عام 1864م حين هاجمت القوات البريطانية التي قدرت بحوالي 1700 مقاتل مسلحين بالمدافع والأسلحة الثقيلة وحدات مقاتلي الماوري من السكان الأصليين التي لم تزد في أحسن أحوالها على 200 مقاتل، واستخدم فيها الماوري أفخاخاً وأساليب اعتمدت على معرفتهم بالأرض؛ مما أدى إلى خسارة البريطانيين 31 قتيلاً و81 جريحاً واضطرارهم للانسحاب من الموقع، لدرجة أن بعض المؤرخين وصف الانسحاب بالفرار!
المحصلة أن الانتصارات المستحيلة تثبت على مدار التاريخ أن العدد والعتاد ليست العناصر الوحيدة التي تحتاجها أي جهة لتنتصر في معركة، فهناك عوامل كثيرة مختلفة أهمها الجانب المعنوي الذي يجعل الفارق العددي والعسكري يتضاءل في وجه الجانب النفسي.. والتاريخ خير شاهد.