ليس شرطًا أن يكون هناك تطابق تامٌّ بين الزوج وزوجه؛ فقد تكون هناك اختلافات في الأفكار والرؤى والطبائع والأهواء والرغبات تتولد عنها بعض المشكلات التي تحتاج إلى علاج.
فإذا أضيف إلى ما سبق بعض الأخطاء في التصرفات، مع سوء ظنٍّ، أو غيرة، إن كان هناك تعدد، أو تقصير في بعض الواجبات.. إلخ، فهذا يضاعف المشكلات وقد يعمقها إن لم يسارع الطرفان إلى ردم الهوة بينهما بالتفاهم والتغافل والتراضي.
وقد تؤدي المشكلات إلى وقوع الهجر بين الزوجين؛ فيتباعدان ويتقاطعان ويتدابران.
والهجر قد يستخدم وسيلة للتربية والتقويم، وهو على درجات.
وقد ورد الهجر في القرآن الكريم في معرض التأديب والتقويم من الزوج لزوجه رغبة في إصلاح العلاقة بينهما، وأطر الزوجة على طاعة زوجها وعدم النشوز عليه.
قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34).
قال الماوردي: «وفي المراد بقوله: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ خمسة أقاويل:
أحدها: ألا يجامعها.
والثاني: ألا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع.
والثالث: أن يهجر فراشها ومضاجعتها.
والرابع: يعني: وقولوا لهن في المضاجع هُجرًا، وهو الإغلاظ في القول.
والخامس: هو أن يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير ليقرها على الجماع»(1).
فإن وقع الهجران ولم ينفع للإصلاح وطال وكثر وقوعه بسببٍ وبدون سبب؛ فيوشك أن يكون هذا «الهَجْرُ مَقْطْعَة للوُدِّ»(2) كما يقولون.
وقد وقع الهجر في بيت النبوة لتعرف الأمة -من بعد- أن هذا بيت بشري تقع فيه الأكدار، وتتبدل فيه الأحوال ما بين فرح وحزن، يسر وعسر، رضا وغضب.. إلخ، لكن هذا البيت في كل أحواله لا يخرج عن أمر الله تعالى وشرعه ومنهاجه.
ولتتعلم الأمة كيف عالج النبي ﷺ بعض المشاكلات الواقعة في بيته.
قَالَ سيدنا عُمَرُ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ.
فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ.
ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ، أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟
فَقَالَتْ: نَعَمْ.
فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ ﷺ فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ(3).
فأخبرنا هذا الحديث عن هجران نساء النبي ﷺ له ومراجعتهن له، بل قد يكون الهجران يومًا بطوله، وهذا الأمر كان معديًا؛ إذ تقلد الضرة ضرتها في ذلك، مما دفع سيدنا عمر أن يقول لابنته حفصة: يَا بُنَيَّةُ، لاَ يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِيَّاهَا.. يُرِيدُ عَائِشَةَ(4).
وقد غضب رسول الله ﷺ من نسائه ووجد في نفسه عليهن فاعتزلهن وهجرهن شهرًا؛ وقيل: إن السبب في الاعتزال شدة موجدته عليهن حين عاتبه ربه تعالى في تحريم الحلال على نفسه كما ورد في سورة «التحريم».
وقد جاء ذلك فيما أخرجه البخاري: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: «مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا»، مِنْ شِدَّةِ مَوْجَدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ(5).
وقيل: بسبب سؤال نسائه التوسعة عليهن في النفقة(6).
أخرج مسلم أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لعمر: «هُنَّ حَوْلِي -كَمَا تَرَى- يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ»(7).
وقد كان هذا الهجران من النبي ﷺ كافيًا لتأديبهن، وترك إذايته وإغضابه، والصبر على الحياة معه، ولم يخترن الدنيا، بل اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
وقد أثَّر فيهن الهجر حتى إنهن كن يبكين لاعتزال رسول الله ﷺ لهن، قال عمر واصفًا حالهن: «أَتَيْتُ الْحُجَرَ فَإِذَا فِي كُلِّ بَيْتٍ بُكَاءٌ»(8).
وهذا الهجر علمه الجميع، مما دعا لتدخل أهل زوجات النبي ﷺ لاستقصاء الخبر، ولإثنائهن عن الأخطاء التي وقعن فيها؛ قال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْبَحْنَا يَوْمًا وَنِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ يَبْكِينَ، عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أَهْلُهَا(9).
والْهجْرَان يَجُوز أَنْ يَكُون فِي الْبُيُوت وَفِي غَيْر الْبُيُوت، وقد علل العلماء ابتعاد النبي ﷺ عن بيوت زوجاته، واعتزاله في علِّيَّة فقَالَ ابن حجر: الْحَقّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال؛ فَرُبَّمَا كَانَ الْهِجْرَان فِي الْبُيُوت أَشَدّ مِنْ الْهِجْرَان فِي غَيْرهَا، وَبِالْعَكْسِ، بَلْ الْغَالِب أَنَّ الْهِجْرَان فِي غَيْر الْبُيُوت آلَم لِلنُّفُوسِ وَخُصُوصًا النِّسَاء لِضَعْفِ نُفُوسهنَّ(10).
وقد يكون الهجر دلالاً، ولا يقدح في المحبة القارة في القلب؛ إذ كانت أمنا عائشة في بعض أحيانها تترك اسم النبي ﷺ إشعارًا بعدم رضاها من بعض الأمور أو المواقف، وما كان ذلك ليخفى عن النبي ﷺ؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى».
قَالَتْ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟
قَالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ».
قَالَتْ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ(11).
قال القاضي: مغاضبة عائشة للنبي ﷺ هي مما سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام لعدم انفكاكهن منها، ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه؛ لأن الغضب على النبي ﷺ، وهجره كبيرة عظيمة، ولهذا قالت: لا أهجر إلا اسمك، فدل على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة(12).
_______________________
(1) تفسير النكت والعيون، (1/ 482) باختصار.
(2) العين للخليل بن أحمد، (1/ 13).
(3) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في «المظالم»، باب: «الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا»، ح(2468) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في «التفسير»، باب: «تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ»، ح(4913) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في «المظالم»، باب: «الْغُرْفَةِ وَالْعُلِّيَّةِ الْمُشْرِفَةِ وَغَيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا»، ح(2468) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) انظر: فتح الباري لابن حجر، (8/ 521).
(7) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في «الطلاق»، باب: «بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية»، ح(1478) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) أخرجه مسلم في «الطلاق»، باب: «في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: ﴿وإن تظاهرا عليه﴾»، ح(1479) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(9) جزء من حديث أخرجه البخاري في «النكاح»، باب: «هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ، وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ: (غَيْرَ أَنْ لاَ تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ)، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ»، ح(5203).
(10) فتح الباري، (9/ 301).
(11) أخرجه البخاري في «النكاح»، باب: «غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ»، ح(5228).
(12) شرح النووي، (15/ 203) باختصار.