فلسطين ركن من أركان حضارة الإسلام، وفصل من سيرة سيد الأنام وتمثل فلسطين ركناً ركيناً من حضارة الإسلام؛ إن على مستوى التاريخ، وإن على مستوى الجغرافيا، وإن على مستوى العمران.
وهي جزء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أسري به إليها، ودخل مسجدها الأقصى المبارك وصلى فيه بالأنبياء، وعرج به منها إلى السماء.
يقول الحديث الصحيح الذي رواه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، ثم دخلت المسجد فصليت فيه، ثم خرجت فجاءني جبريل، ثم عرج بنا إلى السماء» (شرح مصابيح السنة للبغوي 6/ 282، رقم 4578).
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بريدة رضي الله عنه، قال رسول الله عليه وسلم: «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بإصبعه فخرج بها فشد به البراق» (شرح مصابيح السنة، 6/356، رقم 4637),
إن هذين الحديثين الشريفين يشيران صراحة إلى أن محبة المقدس وفلسطين واجبة، وهي من متممات محبة المؤمن للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم؛ إذ يكشف الحديثان عما يلي:
أولاً: فلسطين جزء من جغرافية السيرة النبوية، وأثر من الآثار الشريفة التي تشرفت بنزول النبي صلى الله عليه وسلم بها وصلاته في مسجدها الأقصى، وإمامته الأنبياء فيها.
ثانياً: فلسطين جزء من تاريخ الإسلام في عصر التأسيس، وهي مخزن يحتفظ بمادة أصيلة من مواد تكونه وتشكله وخزينة معجزات في مواجهة الذين وقفوا في مواجهته منعاً للنور في أول أمره بالنزول فيه والعروج منه، والصلاة إليه كان جزءاً من تأسيس الإسلام العظيم.
وكل ما في السُّنة الشريفة مما سقنا بعضاً منه مجرد حاشية موسعة على ما أذاعه الكتاب العزيز عن هذه البقعة الكريمة المباركة في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1).
والحقيقة أن هذا النص المحوري، والحاشية الموسعة عليه التي هي ما جاء في السُّنة عن فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى يجعل من محبة هذه البقاع أمراً يتجاوز المعنى المعجمي للمحبة بوصفها ميلاً قلبياً أو تعاطفاً وجدانياً إلى مقامات وسيعة جداً لا تكون لها محبة إلا بتحصيلها وهذه المقامات هي:
أولاً: محبة فلسطين جزء من ماهية الدخول في الإسلام لارتباطها بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة سيرته والإيمان بالصلاة ركن من أركان هذا الدين، والتصديق بأن هذا المسجد الأقصى كان قبلة الأمة قبل تحويل القبلة إلى مكة المكرمة، وبه تمام جغرافية شد الرحال تعظيماً وتحقيقاً للمهابة للمساجد الثلاثة في الإسلام؛ المسجد الأقصى والمسجد الحرام والمسجد النبوي.
ثانياً: محبة فلسطين والعمل على صيانتها جزء من ماهية الإيمان بعالمية الرسالة الإسلامية، إذ بغير هذه المحبة يضيع تاريخ إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء
ثالثاً: محبة فلسطين جزء من قيام الدليل على رعاية السماء للأرض واتصال الأرض بالسماء؛ إذ كان منها عروجه الكريم إلى السماوات العلا صلى الله عليه وسلم.
الترجمة العملية لمحبة فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى
والحقيقة أن المحبة المأمور بها في هذا الدين لهذه البقعة الكريمة من أرض الله تتجاوز النطاق النظري القلبي إلى حزمة من الواجبات العملية، يمكن إيجاز الإشارة إليها فيما يلي:
أولاً: وجوب عمران فلسطين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته ميمونة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس قال: «نعم المسكن بيت المقدس، ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه»، قالت: فمن لم يطق؟ قال: «فليهد إليه زيتاً» (فضائل بيت المقدس للواسطي ص32)، وعمران بيت المقدس مسألة تتجاوز سكناه إلى تحقيق رفاهية المنشآت فيه، وتزيينها، والقيام على صيانتها وإضاءتها وتعميرها
ثانياً: تعهد فلسطين والمسجد الأقصى بجلب الخيرات إليه، وهو واجب وترجمة عملية للمحبة لازمة من ندب شد الرحال إليه وزيارته طلباً للبركة، وتحقيقاً للإعمار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» (فتح الباري 3/ 63، حديث رقم 1189).
ثالثاً: التخطيط والعمل على تحريره من كل معتد، فقد ظهر من اقترانه بالذكر في مفتتح سورة «الإسراء» ارتباطه بالمسجد الحرام؛ إذ هو منتهي الغاية من رحلة الإسراء، ولما كان مبتدأ الرحلة هو المسجد الحرام المحرَّر، وجب العمل على تحرير المسجد الأقصى ليكون صنو أخيه، وقد فهم الصحابة ذلك فحرروه في عهد الصحابة وذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه لإتمام فتحه بعد قرون من الاحتلال الرومان له، ثم عاد صلاح الدين الأيوبي فهم ذلك فحرره بعد نحو ثمانية عقود من الاحتلال الصلبيين له.
رابعاً: إدراج فلسطين ضمن خطط الأمن القومي لمصر؛ إذ ببقائها تبقى مصر، وكل الدول المطيفة بفلسطين داخلة في أكناف بيت المقدس، ولو ضاعت –لا قدر الله– ضاع كون مصر والشام والجزيرة العربية من أهل الرباط بموجب كونهم من أكناف بيت المقدس، مكتوب لهم الظهور والظفر ما دامت فلسطين وما دام بيت المقدس والأقصى باقياً.
موجز حصاد عناصر المحبة
إن حب فلسطين جزء من ماهية الدين وركن مؤسس في بناء الإيمان بالإسلام، وجزء من الارتباط بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدير جهاده في تثبيت الإسلام على الأرض، ورعاية لتاريخ آلاف آلاف الشهداء من الصحابة التابعين والمجاهدين الذين استشهدوا طلباً لتحرير هذه الأرض التي باركها الله.
إن حب فلسطين جزء من حب أوطاننا التي نعيش فيها؛ لأن فلسطين هي العمق الإستراتيجي الجغرافي لكل بلدان الوطن العربي في المشرق على الأقل.
وفلسطين مادة صلة المشرق الإسلامي بالمغرب الإسلامي وبتحريرها تمام هذا الاتصال بعد أن تقطع ذلك الوطن بزراعة الجسم الخبيث الذي يعيث في الأرض فساداً.
ومحبة فلسطين والتداعي إلى نصرتها –أخيراً– البقية الأخيرة على وجود الإنسانية!