التغافلُ هو تكلُّف الغفلة، والترفُّع عن الصغائر التي لا تنكر معروفًا ولا تعترف بمنكر، ولا تهدر حقًّا، أو تؤسس باطلًا، وهو مهارة في الصبر وكظم الغيظ تحتاج إلى تربية وطولِ مِران؛ من أجل إيجاد أخلاق رفيعة وعلاقات إنسانية راقية، والرجلُ المتغافلُ هو الذي يتظاهر بالغفلة وقلة التيقُّظ متعمدًا ذلك ترفُّعًا عن الدنايا؛ كرمًا منه ورفقًا بالآخرين، أمّا الرجلُ المُغَفَّل فهو من يقبل السوء فلا يعترض، ويرى المنكر فلا يتمعَّر.
وهذه الصفةُ، صفة التغافل، مهمة في حياة البشر الذين لا يستغني بعضهم عن بعض، وقد فُطروا على المخالطة والاجتماع، وفُطروا أيضًا على الخطأ والزلل؛ لقول النبي ﷺ: «كل ابن آدم خَطّاء»؛ فإن لم تكن فيهم هذه الصفة، من التوقُّف عن النظر في سفاسف الأمور والحقير من الحوادث –كانت فتنة لا تنتهي، ومعارك لا تنقطع يشقى فيها النابذ والمنبوذ، وهو ما قد يؤدي إلى تقطيع صلات الأرحام، وخراب البيوت، وعقوق الأولاد. فلكي تصفو الحياة وجب التغافل، ما لم يكن الأمر متعلقًا بحُرمات الله، وهو ما كان عليه رسول الله ﷺ الذي وصفته السيدةُ عائشة –رضي الله عنها- بقولها: «ما رأيتُ رسول الله ﷺ ينتصر لنفسه من مظلمة ظُلمِها إلا أن تُنتهك محارم الله فيكون لله ينتصر» [البخاري].
التغافل في القرآنِ الكريمِ
ومما ورد في شأن التغافل في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: 3]؛ أي أخبر النبي ﷺ السيدة حفصة –رضي الله عنها- ببعض ما أخبرت به السيدة عائشة –رضي الله عنها- معاتبًا إياها، لكنه لم يخبرها –كما ذكرت الآية- بكل ما جرى؛ كرمًا منه ﷺ. وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] [القصص: 55]، ولا يفعل ذلك إلا كبير، وقال تعالى: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) [يوسف: 77]، تغافل يوسف –عليه السلام- فلم يقف عند تلك الكذبة من أخيه حفاظًا على الودّ مع إخوته وستر ذلّتهم والتغاضي عن خطيئتهم.
مواقف من السُّنة
وجاء في سنّة النبي ﷺ كثيرٌ من مواقف التغافل باعتباره خلقًا كريمًا وأمرًا ممدوحًا؛ فقد ورد في وصف أخلاقه ﷺ أنه: (دائم البِشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخّابٍ ولا فحّاشٍ ولا غيّابٍ ولا مدّاحٍ، يتغافل عمّا لا يشتهي…)، ويتغافل عمّا لا يشتهي: أي يظهر الغفلة والإعراض عمّا لا يستحسنه من الأقوال والأفعال لطفًا بأصحابه وحفظًا لقلبه وقلوبهم. وورد عنه ﷺ: «لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئًا فإني أحبُّ أن أخرج إليهم وأنا سليمُ الصدر» [أحمد والترمذي]. وورد عن عائشة –رضي الله عنها-: (دخل رهط من اليهود على رسول الله ﷺ فقالوا: (السامُ عليك)، ففهمتُها، فقلتُ: (عليكم السامُ واللعنة)، فقال ﷺ: «مهلًا يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: (يا رسول الله، أوَلم تسمع ما قالوا؟)، قال رسول الله ﷺ: «قد قلتُ: وعليكم»).
دأب العقلاء والحكماء
كما مدح التغافلَ السلفُ الكريمُ، والشعراءُ والأمراءُ، وعُرف به الحكماء والعقلاء وأهل الحلم والحنكة؛ فقالت العرب: (إن من السخاء والكرم: ترك التجنِّي، وترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب، كما أن من تمام الفضائل: الصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبِشرِ في اللقاء، وردّ التحية، والتغافل عن خطأ الجاهلِ)، وقال ناظمُهم: (ولقد أصمُّ عن الكلام تغافلًا… لأنزِّه الأسماع عن فحشائه)، وقال الآخر: (ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه… لكنَّ سيّدَ قومِه المتغابي)، وقال ابن عباس: (إنّ أمور التعايش في مكيالٍ ثلثُه الفطنة وثلثاه التغابي)، وقال الإمام أحمد: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل). ومن مواقف التغافل المؤثِّرة ما ورد عن خامس الخلفاء (عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه)؛ إذ دخل المسجد في ليلة مظلمة، فمرّ برجلٍ نائم فعثر به، فرفع الرجلُ رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟! (وهو لا يعلم أنه الأمير)، فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرسُ، فقال عمر: مَهْ، إنما سألني أمجنون؟ فقلتُ لا.
ثمرات التغافلِ
للتغافل فضائل وثمرات؛ فمن فضائله: أنه دليلٌ على عقل الرجل وفطنته، به يحفظ كرامته ويصون وقاره وتعلو مكانته بين من يخالطهم، فيألفهم ويألفونه، وهو مروءةٌ لصاحبه ومظهرٌ من مظاهر جوده وكرمه، ويؤصل لقيمة مجتمعية تسهم في الأمن بين الناس وترعى سِلْمهم المجتمعي، قال الشاعر: (من كان يرجو أن يسود عشيرة… فعليه بالتقوى ولين الجانب). وأما ثمراته فأكثر من أن تُحصى، منها: محبة الناس للمتغافل الذي لم يشأ أن يتتبع الزّلات ويفرح للعثرات، ولا يترك فرصة للمخطئين بمراجعة النفس وتهذيبها، وهو علامة على سلامة صدر المتغافل، ومحبته الخير لغيره، وهو ما يبتغيه الصديق من صديقه كما قال الشاعر: (أحبُّ من الإخوان كل مواتي…. وكل غضيض الطرف عن عثراتي؛ يوافقني في كل أمر أريده… ويحفظني حيًّا وبعد مماتي).
التغافل مع الأهلِ وذوي الرحم
والأهل والأبناء وذوو الرحم هم أوْلى الناس بتغافل الرجل؛ وجدالهم في كلِّ زلّة تقنّطهم فيه وتغيِّرُ قلوبهم عليه، فتحدث الجفوة التي نهى الله عنها، والزوجة والولد يظلّان محبيْن ودودين لرب الأسرة ما دام شفيقًا بهما عطوفًا عليهما غير مثقل بعُتب أو إنكار فيما لا يستحق التشنيع، يقول الشاعر: (تغافل في الأمورِ ولا تناقشْ… فيقطعكَ القريبُ وذو المودة؛ مناقشة الفتى تجني عليه… وتُبْدِلُهُ من الراحات شدة). يقول النبي ﷺ: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» [البخاري]، فوجب التغافل والعفو، والاحتمال والملاطفة من دون قسوة أو عنف. وكذلك الولد؛ إذ على الوالد ألا يحاسب على كل الأخطاء، خصوصًا في مرحلتي الطفولة والمراهقة اللتين تحتاجان إلى غمض العين عن أمور لو نُوقشت لرسّخت أخطاء ولكانت إقرارًا للولد على عادات قبيحة وسلوكات رذيلة.
التغافل.. لا التردد والجبن
عليه؛ يتضح الفرقُ بين الرجل المُتغافلِ، وهو المحمود، والرجلِ المُغفَّلِ، وهو المتخاذل عن الحق، غير آمرٍ بمعروفٍ أو ناهٍ عن منكر، وهو مذموم، ويكون في طبيعته –غالبًا- التردد والجُبن والإمعيّة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضٌ في الدين على الكفاية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 14]، والقائمون بهذه الفريضة هم المؤمنون حقًّا؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].