يعد كتاب أبي حامد الغزالي «إحياء علوم الدين» مدونة علمية متكاملة، جمعت بين مختلف العلوم والفنون، فهو كتاب في التربية والسلوك، وفي العلم والمعرفة، وفي الفلسفة والكلام، بل لا نبتعد إن قلنا: إنه يعد من المصادر العالمية في علم التربية والتنمية الذاتية، بلغة اليوم.
وقد عالج الغزالي واحدة من القضايا الكبرى التي ضلت فيها الفلسفات المعاصرة في الغرب، تلك الفلسفات التي تطرقت إلى مفهوم العقل، بعد عصر النهضة، وخلطت بين مختلف الوظائف ونسبتها إلى غريزة العقل وحدها، وهو ما أسقطها في تمجيد العقل والعقلانية إلى حد الغلو، بعد أن جعلت العقل آلة للإدراك والوعي والإيمان معا وفي وقت واحد.
يميز أبو حامد الغزالي في كتاب «إحياء علوم الدين» بين أربعة معانٍ؛ النفس والروح والقلب والعقل، فهي معانٍ مختلفة وعبارات متباينة فيما بينها، رغم أنها متقاربة، فإن الغزالي يرى أن هذا التقارب في معاني تلك العبارات هو الذي أدى إلى الخطأ لدى الكثيرين في التمييز بينها، ومنهم كبار العلماء، وذلك بسبب الجهل كما يرى، فهو يقول: «اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي، واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي، واشتراكها بين مسميات مختلفة، ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا».
تطلق كلمة القلب عند الغزالي على معنيين؛ الأول: يدل على العضو الذي في يسار الصدر، والثاني: يدل على الإدراك، فالقلب الذي في صدر الإنسان حول قطعة لحكم صنوبرية الشكل، وهو لحم مخصوص في باطنه تجويف، وفي داخل ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح، وهذا العضو لا يهتم به الغزالي في كتابه، إذ يرى أنه يتعلق باختصاصات الأطباء ولا يتعلق بالأغراض الدينية، ثم يقول: «ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب، لم نعنِ به ذلك، فإنه قطعة لحم لا قدر له، وهو من عالم الملك والشهادة، إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين».
إن ما يهم الغزالي هو المعنى الثاني لكلمة القلب، الذي يدل على حاسة الإدراك والتمييز، وهذا المعنى يعتبره الغزالي «لطيفة ربانية روحانية»، ويقول عنها: إنها «هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب، ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته، فإن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلق المتمكن بالمكان».
فالقلب بهذا المعنى الثاني هو الذي يخاطبه الشرع، وبه يتعلق العقاب في الآخرة، لأنه أداة الوعي والإدراك والتمييز، وفي ذلك يقول تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179).
يعد القلب عند أبي حامد الغزالي وعاء العلم والمعرفة، وهو سيد الأعضاء وقائدها، وعليه تنطبع سائر العلوم والمعارف، وفي هذا الإطار يقول الغزالي شارحاً هذه المسألة: «اعلم أن محل العلم هو القلب، أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح، وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات، فكما أن للمتلون صورة، ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة، ولتلك الحقيقة صورة تنطبع في مرآة القلب، وتتضح فيها».
ويميز الغزالي، بأسلوب الفيلسوف هذه المرة، بين ثلاثة أمور مختلفة؛ الأول هو القلب، باعتبارها آلة التمييز والإدراك، والثاني هو الأشياء في حد ذاتها كما هي في الواقع، أما الثالث فهو انعكاس تلك الأشياء في القلب، أي الوعي بها وفهمها وإدراكها.
ثم ينقل ذلك التمييز الثلاثي إلى الواقع، فيرى أن العالِم عبارة عن القلب، والشيء المعلوم عبارة عن حقائق الأشياء كما هي في الواقع، والعلم عبارة عن انعكاس ذلك المعلوم في مرآة القلب.
ويضرب الغزالي مثالاً يقرب به هذه الصورة إلى القارئ، يتعلق بالسيف، فيقول إن السيف موجود واليد موجودة، ولكن اليد لم تمتد إلى السيف للقبض عليه، فعملية القبض غير موجودة، رغم وجود السيف واليد، ثم يقول: «وقد كانت الحقيقة موجودة والقلب موجودا، ولم يكن العلم حاصلاً، لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب، كما أن السيف موجود واليد موجودة، ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلاً، لعدم وقوع السيف في اليد».
والعبارة الثانية عند الغزالي هي الروح، وهي أيضا تطلق على معنيين، المعنى الأول يتعلق بالجسم اللطيف غير المرئي الذي يوجد في تجويف القلب الجسماني، كما سبقت الإشارة، ويعرفها بأنها «بخار لطيف أنضجته حرارة القلب»، ويشبه هذه الروح بالنور، والقلب بالسراج، فكما ينبعث النور من السراج كذلك تنبعث الروح من القلب، وهي التي تعطي الحياة لسائر أعضاء الجسم وتحركها، وإذا فارقت هذه الروح جسد الإنسان انتهت أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما يجمعها لفظ الحياة.
والغزالي يرى أن كلمة الروح تطلق على معان كثيرة، حيث يقول: «فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن، إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً، وقد عرّفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء، وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به، حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح، فلا يعالجون موضع الخدر، بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها».
هذا بالنسبة للمعنى الأول للروح، أما المعنى الثاني فهو بعبارة الغزالي «اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته».
اللفظ الثالث هو النفس، وهو أيضاً مشترك بين معان، ولكن ما يهم الغزالي منها معنيان فقط، الأول يتعلق بقوة الغضب والشهوة في الإنسان، وهذا الاستعمال حسب الغزالي هو الغالب على أهل التصوف «لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم “أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك».
أما المعنى الثاني فيتعلق بهوية الإنسان وحقيقته، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها، فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة، قال الله تعالى في مثلها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (الفجر)، والنفس بالمعنى الأول عند الغزالي لا يُتصور رجوعها إلى الله تعالى، فإنها مُبعدة عن الله وهي من حزب الشيطان.
وهذه النفس إذا لم يتم سكونها، ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها، سميت النفس اللوامة، لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه، قال الله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2).
وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء، قال الله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف: 53).
فالنفس بالمعنى الأول عند الغزالي مذمومة، أما بالمعنى الثاني فهي محمودة لأنها نفس الإنسان وحقيقته العارفة بالله تعالى والمدركة لجميع المعلومات.
وأخيراً نصل إلى العبارة الرابعة في هذا الترتيب الوارد عند أبي حامد الغزالي، وهذه العبارة هي العقل، فالعقل كلمة لها دلالات ومعان متعددة.
أحدهما أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب.
والثاني أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم، فيكون هو القلب، أي وظيفة الإدراك.
فالعقل عند الغزالي قد يطلق ويراد به صفة العالم، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله العقل».
ووظيفة العقل هي النصح والتوجيه، إذ يقول الغزالي: «فالعقل مثاله مثال الناصح المشير»، وفي هذا الباب ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى، ويرده عن ردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله».
ولكن العقل ليس له مكان محدد عند الغزالي، فليس هو القلب أو النفس أو الروح، لأن النفس والروح محلهما القلب، أما العقل فلا محل له، فهو شيء باطن في الإنسان، وهو يستمر في الحياة حتى لو مات الإنسان أو انقسم إلى أشلاء، لذلك يقول: «ليس العقل المدرك هذه الأعضاء، بل هو شيء باطن ليس له طول ولا عرض، بل الذي لا ينقسم في نفسه هو المدرك للأشياء، ولو تناثرت أعضاء الإنسان كلها ولم يبق إلا الجزء المدرك الذى لا يتجزأ ولا ينقسم، لكان الإنسان العاقل بكماله قائما باقيا، وهو كذلك بعد الموت، فإن ذلك الجزء لا يحله الموت ولا يطرأ عليه العدم».