تُعرَّف «السيكولوجيا» -باختصار- بأنها: دراسة الوظائف العقلية والسلوكية للشخص، أو دراسة الشخصية من حيث: العاطفة والسلوك والإدراك والعلاقات بين الأشخاص. وتختص سيكولوجية المرأة، على هذا الأساس، بدراسة سلوكها وتفكيرها ومشاعرها، والتي تؤثر فيها العديد من العوامل، بخلاف ملحوظ مع الرجل، منها: الهرمونات والجينات والبيئة والتجارب الشخصية. وما يهمُّنا في هذه السطور هو العنصران الأخيران: البيئة والتجارب الشخصية وأثرهما في سيكولوجية المرأة الفلسطينية لظروف الأَسْرِ والاعتقال، والنزوح والحصار والحرب، والفقر والبطالة إلخ، خصوصًا في قطاع غزة.
إحصاءات وأرقام
وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بلغ عدد النساء الفلسطينيات نحو 2.7 مليون امرأة، يتوزعنَ كالتالي: 1.6 مليون في الضفة الغربية، و1.1 مليون في قطاع غزة، تشكّل النساء ما نسبته 49% تقريبًا من سكان القطاع، يتحملن العبء الأكبر من المعاناة بسبب الحرب؛ إذ بعد شهر من عملية «طوفان الأقصى» بلغ عدد قتلى النساء ما يزيد على 2500 امرأة، تزامنًا مع عمليات النزوح وتوقف المرافق الصحية عن الخدمة وانهيار إمدادات المياه والكهرباء، وتقييد الوصول إلى الغذاء والأدوية، وتعطل خدمات صحة الأم والطفل والوليد؛ حيث تشير التقديرات إلى وجود 50 ألف امرأة حامل في غزة يحتجن إلى رعاية طبية، في ظل تدمير العدو للمشافي ومراكز الرعاية الصحية؛ ما يضطرهن للولادة في الملاجئ أو في الشوارع وسط الأنقاض، وما يترتب على ذلك من زيادة عدد وفيات المواليد والأمهات.
معاناة مزمنة
مثل الرجل، عانت المرأة الفلسطينية على مدى 75 عامًا من آثار الاحتلال الذي خلّف ضغوطًا نفسية قاسية، يزيدها ما يعانيه الشعب الفلسطيني من حصار وعزلة زادا من تفاقم الفقر والبطالة ومشكلات الأمن الغذائي، وقد وقع على المرأة القسط الأكبر من المعاناة في ظل هذا الوضع المعقد؛ حيث تدفع ثمنًا باهظًا في حال كانت هي راعية الأسرة، وهذا ما يحدث كثيرًا لكثرة استشهاد الأزواج جرّاء الحروب المتتالية. وإذا كانت امرأة الضفة والقدس قد سلمت جزئيًّا من أخطار الحرب، فإنها لم تسلم من الأَسْرِ والمعاناة داخل السجون الإسرائيلية؛ حيث تتعرض المعتقلات لتعذيب نفسي وجسدي وانتهاك لخصوصياتهنّ، فضلًا عن الحرمان من العلاج بل من أدنى حقوق الإنسان، خلافًا للاتفاقيات الدولية التي يَضربُ بها الصهاينةُ عُرض الحائط، والتي تؤكد على وجوب «أن تكون النساء موضع احترام»، وضرورة «نقل النساء النفاس من المناطق المحاصرة».
توترُ الصحة النفسية للفلسطينيات
أظهرت دراسات سابقة أُجريت بعد حربي عام 2014 و2021 حول الصحة النفسية وأثر الحرب على سكان قطاع غزة –أن هناك نسبة كبيرة تعاني الاكتئاب، بمستويات متشابهة بين الرجال والنساء، ويزداد توتر الصحة النفسية خلال العدوان حيث لا مكان آمنًا في القطاع؛ ما يرفع معدلات القلق وضعف العلاقات الاجتماعية وصعوبة التكيف مع الوضع الجديد، وقد ازداد الوضع سوءًا بعد دخولهم مؤخرًا في حرب أصعب ودوامة أقسى من الاضطرابات النفسية، وإزاء ارتفاع أعداد الشهداء ومصابي الحرب وعمليات الهدم والتدمير، تزداد الصحة النفسية للمرأة تدهورًا؛ حيث من المعلوم أنها أكثر عُرضة للعواقب النفسية من الرجال، وأكثر منه استجابة للضغوط والأزمات الناتجة عن عمليات النزوح والإجلاء، وانقطاع المياه والكهرباء وشح الغذاء، وعدم القدرة على التكيّف والصمود. وقد وُصفت حالة الأمومة في غزة بأنها «أمومة منزوعة»، أو «حالة خوف وقهر دائمة»؛ فأنْ تكوني أمًّا غزِّية أن تهيئي نفسك دومًا لخبر الفقد والانطفاء المفاجئ.
نموذج فريد في مواجهة الضغوط
يجمع المختصُّون، النفسيون والاجتماعيون، على أن المرأة الفلسطينية، وخصوصًا الغزِّية، نمط فريدٌ في مواجهة الضغوط النفسية، ومثلٌ في الصبر والصمود، ولو وقع على غيرها عُشر ما وقع عليها لعجزت عن مواصلة الحياة، فإنها لا تواجه فقط الممارسات الاحتلالية الفظيعة، بل تتعامل أيضًا مع كل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الاستثنائية، مستخدمة أساليبَ متنوعة في المواجهة، منها التحكُّم في النفس، والانتماء، وتحمُّل المسئولية ما جعلها تتخطى الكثير من مسببات الاكتئاب والاشمئزاز والرفض والكراهية، والقدرة على التفاعل مع الأحداث والواقع، والتأهل لمواجهة أحداث أخرى ووقائع جديدة. وهذا الصمود ناتجٌ في المقام الأول عن عقيدة راسخة بعدم التخلي عن الأرض، وعدم القبول بالخضوع لمحتلّ، وأن الأرض أغلى من الابن والزوج، وناتجٌ أيضًا عن الإحساس بالظلم والقهر وعدم الإحساس بالأمان، لقد حافظت المرأة الفلسطينية، بعبقريتها وقدرتها على التأقلم واحتمال الأعباء، على تماسك مجتمعها من الانهيار، وكانت ردءًا للرجل المقاوم تشدُّ أزره وتحمي ظهره، كرمز للعطاء والاستبسال، وكوعاء طاهر لإنجاب الرجال الذين يجاهدون لاسترداد الأرض والمقدسات. وتشكل ظاهرة «خنساوات فلسطين» ظاهرة هادمة لكلِّ قواعد السيكولوجية النسائية؛ حيث تدفع المرأة أبناءها إلى الشهادة، في صبر وجلد غير معهود، إيمانًا منها بقضاياها العقائدية والوطنية، وتطلعها إلى آفاق العدل والحرية والجزاءات الأخروية.
عقيدة إسلامية راسخة
تستلهم المرأة الفلسطينية، في سلوكها وتفاعلها مع الأحداث والظروف المجتمعية، واقع وصفات المرأة المسلمة في عهود السلف الكريم؛ من حيث سلوك القوة والشجاعة، والاستبشار والتفاؤل؛ فهي تستقبل استشهاد ابنها بالفرح والزغاريد؛ ليقين رسخ في وجدانها بوعد الله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، وتتلقى نبأ هدم بيتها وضياع مالها لا كما يتلقى الآخرون أنباء الكوارث من صياح وجزع، بل بصبر جميل أملًا فيما عند الله من عوض، فهي في كل الأحوال صامدة متماسكة، متغلّبة على خسارتها وأحزانها، واعية متفهّمة، كريمة مضحية، دليل إيمان وقر في القلب، ودليل صدق ورجاحة عقل، وقدرة على التفكير والإبداع حتى في أحلك الأزمات.