ينبغي للشباب جَعْل الاقتداء والاتساء بأولاد العباس بن عبدالمطلب ونظائرهم من الصحب الكرام ضرورة، رضي الله عنهم جميعاً، حيث خلعوا جميعاً على سيرهم من أخلاق الإسلام وشمائله؛ ما جمع عليهم الفضل والثناء من جميع أطرافهما ونواحيهما، وهذا يدفعنا إلى تكرار شهادة التاريخ: من أراد الجمال، والفقه، والسخاء فليأتِ دار العباس بن عبدالمطلب، فالجمال للفضل، والفقه لعبدالله، والسخاء لعبيد الله.
فأمَّا عبدالله فلا يجهله إلَّا جاهل، ولا يغفله إلَّا غافل، وأمَّا الفضل، وعبيد الله، وقُـثَم؛ فينبغي أن نقتبس من أنوارهم شيئاً، ونتنسَّم من طيوب العزَّة والشرف التي تفوح من بين جدران دارهم، وحروف نسبهم فكفاهم شرفاً لا يساجله شرف أنهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في أبيهم: «من آذى عمِّي فقد آذاني، فإنَّما عَمُّ الرجلِ صِنْوُ(1) أبيه(2)».
ولئن طوَّفنا مع عبيد الله، والفضل في رحلتين ممتعتين وأنف قصرهما راغم، فيتبقى التطواف مع قُثَم -وأيضًا– وأنف قلة أحداث سيرته راغم.
وإن سيرة قُثَم القصيرة لتفرض علينا مرة أخرى الوقوف مع شهادة التاريخ: من أراد الجمال، والفقه، والسخاء فليأتِ دار العباس بن عبدالمطلب؛ فالجمال للفضل، والفقه لعبدالله، والسخاء لعبيد الله..
وما ذاك إلَّا لنستأذن التاريخ في رصد شهادتنا إلى جوار شهادته فنضيف: والأمانة لقُثَم؛ حيث دلَّل بعض المؤرخين على أمانته، وأدبه، وصدقه بهذا الخبر:
سُئل قُثَم بن العباس: كيف وَرِث عليّ بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه دونكم؟ فأجاب قُثَم رضي الله عنه: لأنه كان أولنا لحُوقاً، وأشدَّنا لُـزُوقاً(3).
وربما سأله عبدالرحمن بن خالد مرة أخرى ذات السؤال بصيغة أخرى: ما شأن عليّ، كان له من رسول الله صلى الله عليه منزلة لم تكن للعباس؟! فأعاد ذات الإجابة في ذات المنطق الوجيز والبليغ: لأنه كان أولنا لحُوقًا، وأشدَّنا لُـزُوقًا(4).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه صغيرًا، وإذا مرَّ به أمر أصحابه أن يحملوه معه على دابته.
قال عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما لخالد بن سارة: لو رأيتني وقثم، وعُبيد الله، ابني العباس، ونحن صبيان نلعب، إذ مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على دابة، فقال: «ارفعوا هذا إليّ»، فجعلني أمامه، وقال لقثم: «ارفعوا هذا إليّ»، فجعله وراءه، وكان عُبيد الله أحب إلى العباس من قُثَم، فما استحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه أن حمل قثم وتركه(5).
ويشي الخبر بشكل أو بآخر بأن قُثَم منذ سنوات عمره الأولى كان له منزلة ارتقت في النفس النبوية الشريفة، وربما من أسباب حِيازَة قثم لهذه المنزلة الشريفة أن أمه لبابة بنت الحارث رضي الله عنها أرضعت الحسن بن عليّ ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم بلبن قُـثَم؟ أكرر: ربما.
قال قابوس بن المخارق: قالت أم الفضل: يا رسول الله، رأيت كأنَّ عضواً من أعضائك في بيتي! فقال صلى الله عليه وسلم: «خيراً رأيت، تلد فاطمة غلاماً، فترضعينه بلبن ابنك قُثّم»(6).
وما أن راح قثم يَعِي ما يسمعه، ويدرك ما يراه حتى رغب في ملازمة ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، فلزمه ما شاء الله عز وجل له أن يلزمه.
بيد أن القدر الشريف لم يمهله ليحقق ما شاءه من تلكم الملازمة الشريفة، حيث صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وحرص قثم على شهود غسله.
ولئن لم يُـنِلْهُ القدر ما شاءه من ملازمة ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أناله منقبتين(7).
فأما المنقبة الأولى فقد ضارعه في جلالها وتميزها القليل من بني عبدالمطلب الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقِه، قال ابن الكلبي، رحمه الله: المشبهون برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني العباس بن عبدالمطلب: قُـثَم بن العباس، وعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ومن بني أبي لهب بن عبدالمطلب: مسلم بن معتب بن أبي لهب، ومن بني المطلب بن عبد مناف: السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف(8).
وأما المنقبة الثانية فهي عناية قدر لن تتكرر، فلم يُـنِلها القدر لسواه، ولم يسامه فيها أحد، فجاءت تختال في جلالها وتفردها، لأنها لا تنبغي إلا أن تكون لشخص واحد، حيث جعله قدره آخر الناس عهداً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه آخر من خرج من قبره الشريف تتقدمه أحزانه وتتعقبه، وتسبقه أوجاعه وتستدبره، فعن عبدالله بن الحارث قال: اعتمرت مع عليّ بن أبي طالب زمن عمر رضي الله عنهما، فلمَّـا فرغ من عمرته، أتاه نفر من أهل العراق، فقالوا: يا أبا الحسن، جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال عليُ: أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أجل، عن ذلك جئنا نسألك، فقال: آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم كان قُثَم بن العباس(9).
وراح قُثَم يكمل مسيرته التي تتضوع بإخلاصه على مدى ستة وأربعين عاماً بعد رحيل ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن علياً رضي الله عنه كان يعرف لقثم فضله، ويقدر له حكمته، فلمَّا تولَّى الخلافة، وتحمل أعباء إمارة المؤمنين استعمله واليًا على مكة المكرمة والطائف، ولم يزل عليهما حتى استشهد عليّ.
وكان قُثَم صائب السعي صوب الجنة، وبعد استشهاد أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه راح يكمل مسيرته، غاضاً طرفه عن مكانته، فانضوى(10) كجندي تحت راية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقيادة سعيد بن عثمان بن عفان في الجيش الميمم صوب سمرقند.
فلئن كان واليًا، أو كان جنديًا بين غمار(11) الجنود فهذا لا يغض من قدره، أو يخافت من منزلته، وليس لذلك في نفسه أدنى اعتبار، طالما كان يعمل لله، وعلى الطريق الذي يراه صواباً.
وهناك بسمرقند وفي السنة السابعة والخمسين للهجرة الشريفة جنى قثم رضي الله عنه ثمرة سعيه المخلص الصائب، واستأثر به ربه شهيداً مجيداً.
وإذا لم يترك قُثَم أي نسل فقد ترك سيرة ذكية، وقدوة قمينة بالاقتداء، يُسَطِّران له ذيوعاً وانتشاراً، وخلوداً.
ولما نُعِيَ قُثَم إلى أخيه عبدالله بن عباس رضي الله عنه، استرجع، وأناخ عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام إلى راحلته وهو يقرأ محزوناً: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)(12).
_____________________________
(1) الصِّنْوُ: المثيل والنظير؛ أي أن عمّ الرَّجلِ مِثلُ أبيه في المَكانةِ والمنزلةِ.
(2) أخرجه الترمذي في سننه (3758)، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (13/ 143)، وابن حجر العسقلاني في إتحاف المهرة (12/ 701).
(4) رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (42/ 393).
(5) رواه البيهقي في الدعوات الكبير، ص 307 – 308.
(6) حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد في مسنده (26875)، والطبراني في الكبير (25/ 39)، وابن سعد في الطبقات (8/ 279).
(7) منقبتان: مثنى منقبة، والمنقبة مفرد مناقب وهي الفضائل والمفاخر يحققها الإنسان، وأيضاً الأخلاق الحميدة لديه.
(8) الأعلاق النفيسة (ص 201).
(9) أخرجه أحمد في المسند (1/ 101).
(10) مالَ وانضم.
(11) بين جمع الجنود الكثيف المزدحم.
(12) انظر: طبقات ابن سعد (7/ 367)، البداية والنهاية (8/ 78)، طبقات خليفة (1973)، الإصابة (7096)، الاستيعاب (2190)، والسير (3/ 154)، أسد الغابة (4279).