من الآفات الخلقية الملازمة للطبيعة «الإسرائيلية» عبادة المال، والشح به، والحرص عليه، وقديماً عبدوا العجل الذهبي، وهو يشير إلى مدى تعلقهم بالذهب وبريقه، وقد وصفهم القرآن بالبخل وسجله عليهم في قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء: 53).
يقول العلَّامة رشيد رضا رحمه الله في تفسير هذا الآية في المنار: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ) قالوا: إن «أم» هنا منقطعة، وهي عند جمهور البصريين للإضراب والاستفهام، والمراد بالإضراب هنا: الانتقال من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت وتفضيل المشركين على المؤمنين، إلى توبيخهم على البخل والشح والأثرة، واختار الأستاذ الإمام أن «أم» إذا وقعت في أول الكلام تكون للاستفهام المجرد، والاستفهام هنا للإنكار، والتوبيخ يستفاد من قرينة المقام؛ أي ليس لهم نصيب من الملك كما لهم نصيب من الكتاب، بل فقدوا الملك كله بظلمهم وطغيانهم.
(فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)؛ أي: ولو كان لهم نصيب من الملك لسلكوا فيه طريق البخل والأثرة بحصر منافعه ومرافقه في أنفسهم، فلا يعطون الناس نقيراً منه إذ ذاك، والنقير هو النقرة أو النكتة في ظهر نواة التمر، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، شبهت بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة، والنقير كالفتيل في الآية السابقة: (وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء: 49)، يضرب به المثل في الشيء القليل والحقير والتافه، وكذلك يضرب المثل بالقطمير، وهي القشرة الدقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة.
وحاصل المعنى: أن هؤلاء اليهود أصحاب أثرة شديدة، وشح مطاع، يشق عليهم أن ينتفع منهم أحد غير أنفسهم، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، فكيف لا يشق عليهم أن يظهر نبي من العرب، ويكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، هذه الصفة لا تزال غالبة على اليهود ظاهرة فيهم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله، فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة، ولا يعطونهم منها نقيراً من نواة، أو موضع زرع نخلة، أو نقرة في أرض أو جبل، وهم يحاولون الآن -وحاولوا قبل الآن- ذلك بقطع أسباب الرزق عن غيرهم، فالنجار اليهودي في بيت المقدس يعمل لك العمل بأجرة أقل من الأجرة التي يرضى بها المسلم أو النصراني، وإن كانت أقل من أجرة المثل، ولعل جمعياتهم السياسية والخيرية تساعدهم على ذلك، فالدلائل متوفرة على أن القوم يحاولون امتلاك الأرض المقدسة، وحرمان غيرهم من جميع أسباب الرزق فيها، يفعلون هذا وليس لهم نصيب من الملك «هذا وما كيف لو».
وهل يعود إليهم الملك كما يبغون؟ الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وإنما تبين ما تقتضيه طباعهم فيه لو حصل، وسيأتي البحث في ذلك في تفسير سورة «الإسراء» التي تسمى أيضاً «سورة بني إسرائيل»، ويدخل في ذلك ما تقتضيه من الكثرة وهم متفرقون ومتعلقون بأموالهم في كل الممالك، ومن الاستعداد للحرب والزراعة، وقد ضعف ذلك في أكثرهم، ولكنهم يعتقدون اعتقاداً دينياً أنهم سيقيمون الملك أو سوف يقيمونه في البلاد المقدسة، وقد ادخروا لذلك مالاً كثيراً، فيجب على العثمانيين ألا يمكنوا لهم في فلسطين، ولا يسهلوا لهم طرق امتلاك أرضها، وكثرة المهاجرة إليها، فإن في ذلك خطراً كبيراً كما نبهنا في تفسير الآية السابقة من عهد قريب. اهـ.
كتب هذا الشيخ رشيد رضا في تفسيره الذي كان يصدّر به مجلة «المنار»، وكان ذلك في ج11، المجلد الثالث عشر، الجمعة 30 ذي القعدة 1328هـ/ 2 ديسمبر 1910م.
___________________
المصدر: كتاب «القدس قضية كل مسلم».