أصبحت الرموز والشفرات جزءًا من لغتنا عندما نتحدث بها على منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصًا تلك التابعة لشركة «ميتا» التي تملك منصتي «فيسبوك» و«إنستجرام»، ووضعت «ميتا» مجموعة لوائح هي في نظرها لصالح «مكافحة خطاب الكراهية»، أو منع «نشر الأخبار الكاذبة»، لكننا سرعان ما ندرك أنها رغبة في نشر الرواية من جانب واحد فقط، ولا يقتصر هذا الأمر على الحرب بين المقاومة والكيان المحتل فحسب، وإن كان هو الأحدث، ولكنها كذلك امتدت لأحداث أخرى مهمة، وهذه بعض الأمثلة:
فأثناء المجازر الوحشية في ميانمار ضد أقلية الروهنجيا المسلمة، التي قتل فيها أكثر من 9000 شخص، وتم التكتم عليها في الإعلام الغربي، ولم يتبق إلا منصات التواصل الاجتماعي لإيصال معاناة سكان ميانمار للعالم، قامت «ميتا» بحذف 425 صفحة، و17 مجموعة، و135 حسابًا على «فيسبوك»، و15 حسابًا على «إنستجرام» بحجة عدم التوافق مع لوائح «فيسبوك»!
من جهة أخرى، سمحت «ميتا» بانتشار خطاب الكراهية ضد مسلمي الروهنجيا لأكثر من 5 سنوات ولم تقم بحذفه؛ الأمر الذي مهد لارتكاب تلك المجازر وتوسعة نطاقها ووحشيتها، حيث قالت متحدثة باسم «فيسبوك»: خطاب الكراهية بدا وكأنه أولوية منخفضة لـ«فيسبوك» في ذلك الوقت.
وكانت النتيجة أن قُتل الروهنجيا في عام 2017م، وتعرضوا للتعذيب والاغتصاب والتشريد بالآلاف كجزء من حملة التطهير العرقي لقوات الأمن في ميانمار، كما فر أكثر من 700 ألف من الروهنجيا من راخين عندما شنت قوات الأمن في ميانمار حملة مستهدفة من القتل والاغتصاب وحرق المنازل على نطاق واسع ومنهجي.
وقالت أنييس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية: في الأشهر والسنوات التي سبقت الفظائع، كانت خوارزميات «فيسبوك» تكثف عاصفة الكراهية ضد الروهنجيا التي ساهمت في العنف في العالم الحقيقي، بينما كان جيش ميانمار يرتكب جرائم ضد الإنسانية وضد الروهنجيا، كانت «ميتا» تتربح من خوارزمياتها التي تثير الكراهية.
فبركة صور!
إن قدرة المنشورات والصور على إلهاب مشاعر الجماهير أمر ليس بالحديث، فخلال حرب البوسنة عام 1992 – 1996م، نشرت الصحفية الصربية ڤتشرنيه نوڤوستي تقريرًا من المفترض أنه من قلب الحرب في البوسنة بعنوان «Болно подсећанје» (ذكرى مؤلمة)، وجاء في التقرير أسفل الصورة، الصبي الصربي الذي قُتلت عائلته بأكملها على يد مسلمي البوسنة، ثم تبين لاحقًا أن الصورة المستخدمة في التقرير عبارة عن لوحة بعنوان «Siroče na majčinom grobu» (يتيم عند قبر والدته) للرسام الصربي أوروش بريديتش، وأنها بالطبع ليست مشهدًا حقيقيًا من الحرب، وإنما كان هدفها إشعال نار الكراهية في نفوس الصرب وهم يبيدون المسلمين في البوسنة.
وخلال الحرب الروسية الأوكرانية، حرص «فيسبوك» كما نشرت «ميتا»، في بيان رسمي، مصرحة بحرصها على تطبيق سياسات جديدة وأقوى على وسائل الإعلام الروسية التي تسيطر عليها الدولة، بما في ذلك خفض رتبة منشوراتها، وتوفير ملصقات للمستخدمين حتى يعرفوا مصدر المعلومات، أما خفض رتبة المنشورات فتسببت في انخفاض كبير في نشاط هذه الصفحات حول العالم، بالإضافة إلى انخفاض كبير في تفاعل الأشخاص مع المحتوى الذي نشروه.
وبالنسبة للحرب التي تخوضها المقاومة الفلسطينية حاليًا مع الكيان المحتل، فقد حذفت «ميتا» أكثر من 795 ألف منشور في الأيام الثلاثة الأولى فحسب من بداية الحرب، وقامت بإنشاء مركز عمليات خاصة مزود بخبراء، بمن في ذلك متحدثون بالعبرية والعربية بطلاقة، لرصد هذا الوضع المتطور بسرعة، والاستجابة له عن كثب في اللحظة التي يتم فيها الحدث بحيث يسمح لنا هذا بإزالة المحتوى الذي ينتهك معايير المجتمع، أو إرشادات المجتمع بشكل أسرع، ويعمل كخط دفاع آخر ضد المعلومات المضللة.
وكما تلاحظون، فإن معايير المجتمع وإرشاداته تعبيرات فضفاضة للغاية يندرج تحت مظلتها ما شاءت «ميتا» أن يندرج، ولا ينتمي لها من أرادات «ميتا» محوه وإقصاءه وحذف روايته، فجهودها تركز بصفة أساسية على تغطية الحدث من المنظور الذي ترغب الشركة في أن يصل للعالم لا كما هو على الحقيقة، وهدف «ميتا» ليس مكافحة المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، بل مكافحة الرواية التي لا ترغب في أن تنتشر، وهي تعلن ذلك صراحة، فهي تصنف «حماس» تحت خانة المنظمات والأفراد الخطرة في «ميتا»، ويعني هذا في نظرها أن «حماس» ممنوعة من دخول منصاتنا، وسنقوم بإزالة محتوى الثناء والدعم الأساسي لها عندما نقوم باكتشاف ذلك.
وعلى الجانب الآخر، تؤكد «ميتا» في تصريحاتها أنه من أجل إعطاء الأولوية لسلامة «الإسرائيليين» المختطفين من قِبَل «حماس»، قمنا مؤقتاً بتوسيع نطاق سياسة العنف والتحريض وإزالة المحتوى الذي يشير بوضوح إلى الرهائن عندما نتمكن من اكتشاف الأمر، وذلك حتى لو تم نشره لإدانة وضعهم أو رفع الوعي به.
وبناء عليه، ستقوم «ميتا» في سبيل نشر روايتها ودحض رواية الغير كل ما يستلزمه الأمر، حتى لو كان مجرد «هاشتاج» فحسب، حيث تصرح بقولها: تماشيًا مع قواعدنا، قمنا بتقييد بعض علامات «الهاشتاج» على «إنستجرام» بعد أن قيّم فريقنا أن المحتوى المرتبط بها ينتهك إرشادات مجتمعنا باستمرار.
فإذن، نحن نتعرض لحرب من نوع آخر وهي حرب على الفكرة والرأي، وحرب على نشر الوعي والحقيقة، فلم تعد «ميتا» تخفي تحيزها الواضح لجانب معين، وسعيها الحثيث لتقييد منشورات كل من تسول له نفسه الانحياز للجانب الآخر.
وقد حان الوقت لندرك أن حرية الرأي ما هي إلا كذبة أراد بها الغرب أن يُروج لأكاذيبه من خلالها، وأن يستبيح ديننا وعقيدتنا دون حسيب أو رقيب، وحين يأتي دورنا لنمارس حريتنا في التعبير، إذ بنا نفاجأ بكيل من الاتهامات تبدأ بمعاداة السامية وتنتهي بـانتهاك معايير المجتمع.
نحن في النهاية إنما نقف أمام عالم يتباهى بنفاقه، ويستعرض قدرته على الكيل بمكيالين لعلمه أن موازين القوى بيديه، فما تجرأت «ميتا» على فعل ما فعلته إلا لعلمها أنها تستحوذ على سوق منصات التواصل الاجتماعي، وأن أقرب منافسيها لا يعيش أزهى فتراته الاقتصادية، وهو المعيار الأوحد والأهم لهذا العالم.