الهجر نار مستعرة.. لهيبها يكوي الشوق، وحسيسها يلهب المشاعر.. دروبه كثيرة، متفاوتة في شدتها، فبينما أجازه الله في المضاجع دون غيرها تأديبًا للمرأة على نشوزها، فرضه الفقر والحرب بإشعال مصابيحه مبكرًا في عِشَاش الزوجية بريف اليمن، لتنضح الفتيات شوقًا وشجنًا من قساوة هذا العقاب الذي سرق من وجوههن البسمة، وأغرقهن في بحر من الأحزان والآلام.
وبينما يجد الرجل في الغربة مخرجًا من الفقر والبطالة، تعيش المرأة في ريف البلاد جحيمًا لا يطاق، فتتحمل أعباء الحياة وحدها، وتواجه الفقر، والإهمال، بمفردها، لتعبر عن معاناتها من الهجر بترانيم الألم والحزن الذي تشعر به، آملة في أن يجمعها الله مرة أخرى مع زوجها.
وكانت «الملالاة» الترنيمة الأبرز بين فتيات الريف الآتي اكتوين بويلات الغربة، وتلك المسؤولية الكبيرة التي ألقيت على عاتقهن بقرار الغربة والهجر الذي يتخذه الأزواج للبحث عن الرزق خارج الوطن، لتبدأ المعاناة بذلك المصير المجهول الذي تواجهه المرأة الريفية، حيث تتقاسم نفسها بين تربية أبنائها والاعتناء بأرضها.
وبينما تغني فتيات الريف في لهفة وشوق إلى أزواجهن، تعبر كلماتهن عن الألم والحزن الذي يسكن قلوبهن، وعن الأمل الذي لا ينطفئ في أن يجمعهن الله مرة أخرى مع أزواجهن.
الهجر والفن
تمثل الملالاة التي اشتهرت بها أرياف «الحجرية» بتعز موالاً يمنياً خالصاً، ارتبط شعبياً بوجدان الناس خصوصاً المرأة، إذ ارتبطت بها بشكل أساسي نتيجة اغتراب الزوج والعائل لسنوات وتحملها مسؤولية الأسرة والأرض، فكانت تحاول أن تخفف عن نفسها بإطلاق الترانيم الشعبية الغنائية لتشرح بها وضعها العاطفي أو الاجتماعي وحتى الاقتصادي.
و«الملالاة» جزء من الثقافة الشعبية اليمنية، تركز بشكل أساسي على معاناة فتيات الريف من تأثيرات غربة أزواجهن الذين يتركون الوطن بحثًا عن فرص عمل أفضل، في تعبير غنائي بأبيات شعرية تمتاز بوزن موسيقي محدد، فكل بيت في هذه الأبيات مستقل ومزين بقافية خاصة به، وتبدأ كل «ملالاة» بالمقطع الصوتي الشهير «ألَا ليَليْ لَيْلي لَيْلي لَي لَي لَييييي»، ويتميز هذا الفن بشكل كبير في ريف محافظة تعز.
تتحدث هذه الأغاني عن تحمل الزوجة للمسؤولية المتزايدة لإعالة الأسرة والاعتناء بالأرض في غياب زوجها، فالعديد من المهاجرين يغيبون لسنوات طويلة، وبعضهم لا يعود أبدًا، مما يترتب على ذلك تفاقم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية للزوجة المهجورة.
الأغاني تعكس الصعوبات التي تواجه الزوجات في هذه الحالة وكيف يمكن للموسيقى أن تساهم في تخفيف معاناتهن، تتيح للزوجات التعبير عن مشاعرهن من الحزن والأسى والحنين، وأيضًا تجاهل بعض المهاجرين لمصدر دخلهم وعائلاتهم.
وتعبر أغنية المرأة الريفية في تعز عن ألم فراق المحبوب وبُعده بنبرة حزن وشجن، حيث تتجسد في «ملالاتها» معاناة العديد من النساء اليمنيات اللائي يضطررن إلى تحمل ألم الفراق لسنوات طويلة، فتقول:
ألَا ليَليْ لَيْلي لَيْلي لَي لَي لَييييي
وإني أسألك بالله يا ذي السحابة
قولي لمحبوبي لمو العيابة
وامسلمين قولوا لمن تغرَّب
سافر وخلاني لمن مسيَّب
ماناش هدر قولوا لخلي الزين
يغيب على الخاطر ما غاب على العين
هجرتني هجر المقارم السود
هجر السحايب للشذاب والعود
هجرتني والهجر صوب قتَّال
لكنني شصبر ومن صبر نال
وفي السياق الحالي، يشهد الفن الشعبي في اليمن تجددًا نتيجة لمبادرات شبابية تستهدف الحفاظ على هذا التراث الثقافي، حيث تهدف هذه المبادرات إلى التعريف بـ«الملالاة» والمحافظة عليها من الاندثار والنسيان، ويُظهر هذا التفاعل الإيجابي تقدير الشباب لهذا الفن ورغبتهم في الحفاظ على تراثهم.
الهجر الجبري
في اليمن، تعاني الزوجات من الآثار السلبية لهجرة أزواجهن إلى الخارج، وذلك نتيجة الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد، فمع الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع معدلات البطالة، يضطر العديد من الرجال إلى البحث عن فرص عمل خارج البلاد لتوفير لقمة العيش لأسرهم، ويكون هذا القرار إلزاميًا بالنسبة لهم، حيث يجدون أنفسهم مضطرين للهجرة والمكوث لسنوات طويلة في بلدان أخرى.
ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في اليمن في العام 2014م، واشتداد شدة الصراع، واليمنيون في حالة تحرك وتنقل، فبعضهم ينتقل بحثًا عن العمل أو لأسباب اقتصادية، بينما يتنقل آخرون هرباً من الصراع أو الاضطهاد أو الإرهاب أو انتهاكات حقوق الإنسان؛ بسبب الحرب المستعرة، حيث تقدر منظمة الهجرة الدولية أن ما يقرب من مليوني يمني غادروا البلاد منذ اندلاع الحرب الأهلية في البلاد.
ويمثل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عامًا غالبية المهاجرين اليمنيين، حيث يشكلون حوالي 60% من إجمالي المهاجرين.
يُعزى سبب هجرة الشباب اليمنيين إلى مجموعة من العوامل الرئيسة، أولها الحرب الأهلية التي أفقدت البلاد استقرارها وأثّرت سلبًا على الاقتصاد والبنية التحتية، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة لتصل إلى أكثر من 50%، وهو من أعلى معدلات البطالة في العالم، حيث يجبر الشباب على البحث عن فرص جديدة في الخارج لضمان لقمة العيش، كما يعيش حوالي 80% من اليمنيين تحت خط الفقر، مما يجعل الحياة في اليمن محدودة من النواحي المادية.
ولا شك أن هجرة الشباب اليمني شكلت تحديًا كبيرًا لزوجاتهم، حيث تضطر النساء إلى تحمل أعباء الحياة بمفردهن، وهو ما كانت وما زالت تعيشه أغلب نساء اليمن، حيث تقضي معظم سنوات عمرها في فراق زوجها، مما يؤثر على حياتها بشكل كبير.
_________________________
باحث متخصص في الشأن اليمني.