نعيش عصر الصورة.. هكذا كَتب علينا هذا العصر، ولم تتخلف المقاومة في معركة «الأقصى» عن الاعتبار لهذه الخاصة الجديدة لعصرنا الذي بدأ مع نظور وسائل الاتصال والفضائيات ووسائل التواصل العالمي وأدواته المختلفة والمتعددة، وأصبحت الصورة تغني عن التعليق والتحليل والوصف والإنشاء، بل إن سرعة العصر لم تجعل للعقل البشري العام أن يلتفت إلى ما يكتب تحت الصورة أو يعلق عليها، فالصورة كافية بأن تطبع الوجدان بما تحمله من معان وأفكار وموجهات.
حملت معركة الأقصى «طوفان الصورة» ذات المعاني المتعددة والرسائل المتعددة والجمهور المختلف أيضًا، فكانت هناك صورة إلى الداخل وصورة إلى الخارج، وصورة من الداخل إلى الخارج وصورة من الخارج إلى الخارج، وصورة من الداخل إلى الداخل، وصورة للعامة وصورة للخاصة.. لا يمكننا حصر أو تقصي المعاني التي حملتها كل هذه المستويات من طوفان الصورة التي بدأت بدخول المقاومة إلى فرقة الاحتلال في غلاف غزة والمستوطنات المسلحة إلى صورة الاشتباكات التي خاضتها المقاومة من المسافة صفر –دون أي أغطية جوية أو نارية التي لا تملكها الجيوش المنظمة- إلى صورة المجاهدين الصابرين أهالي غزة وهم يحملون جثامين ذويهم أو أشلاءهم، إلى صورة الدعاء للمقاومة بالثبات والنصر من تحت الأنقاض، إلى صورة الدمار الشامل الذي خلفه العدوان البربري الوحشي والهمجي على مباني وأهل غزة المدنيين، إلى صورة المراسم التي نسجتها المقاومة عند تسليم الرهائن المدنيين في كل غزة، شمال غزة ووسطها إلى جنوب غزة في كشف لكذب العدو المحتل أنه دمر قدرات المقاومة بما يضعفها، وفي فضح لدعاية المحتل بمعاملة الرهائن، وفي مقارنة بين صورة إطلاق سراح الأسرى الأطفال والنساء في سجون الاحتلال، وصورة تسليم الرهائن لدى المقاومة.
الصورة.. وتهافت بايدن!
من وظائف الصورة أيضًا «كشف الكذب»، ومما سجلته الصورة الكاشفة للكذب، ما ردده بايدن في الأسبوع الأول معركة الأقصى، من أن المقاومة «قطعت رؤوس الأطفال» في 7 أكتوبر عند اقتحامها المستوطنات، ذكرت «سكاي نيوز»، في 12/ 10/ 2023م، أن البيت الأبيض تراجع في وقت متأخر من الأربعاء، عن التصريحات الصادرة عن الرئيس جو بايدن بشأن رؤيته صور أطفال «إسرائيليين» قطعت رؤوسهم على يد «حماس»، ونقلت شبكة «سي إن إن» الإخبارية عن مسؤول في الإدارة الأمريكية، قوله: إن هذه التصريحات كانت مبنية على مزاعم مسؤولين «إسرائيليين» وتقارير إعلامية محلية، وأوضح المسؤول أن بايدن والمسؤولين الأمريكيين لم يروا هذه الصور، ولم يتحققوا بشكل مستقل من أن «حماس» تقف خلف هذه المزاعم.
وقد سجلت الصورة لاحقًا نقيض ذلك تمامًا، من خلال مشاهد تسليم المقاومة للمحتجزين لديها وبينهم أطفال، وكانت من بينهم طفلة تحمل كلبها –الدفعة الخامسة من المحتجزين 28/ 11/ 2023م- بالإضافة إلى باقي الأطفال الذين حرصوا على إظهار الود والحميمية للمقاومين الذين رافقوهم، بعد ركوبهم سيارات الصليب الأحمر في لقطات كانت تحمل كثيرًا من الاطمئنان والود التي لا تخطئها العين الإنسانية أياً كان جنسها أو لغتها.
لغة الصورة ورمزيتها
تحمل الصورة لغة واضحة، تتجاوز اللغة المكتوبة والمقروءة، حيث تأتي اللغة المرئية دون توجيه مسبق، ولا تحيز، ولا ممارسة قهر البلاغة والكذب، فالصورة الصادقة تحمل لغة تخترق الوجدان والمشاعر والعقول فتثبت من المعاني ما لا تستطيع الكلمة أن تثبته، إن أعظم ما تقوم به الكلمات بالنسبة إلى الصورة هي أن تصفها بقدر الإمكان إن استطاعت وفي الغالب تعجز عن الوصف الحقيقي.
تحمل الصورة لغات متعددة يصعب حصرها، من بينها لغة العيون، لغة الجسد، لغة الحركة، لغة الثبات، لغة المكان وغير ذلك.. وهكذا جاءت الصور التي بثتها المقاومة في مراسم تسليم المحتجزين لديها في الأيام الست الأولى للهدنة، ومن الرموز واللغة التي حملتها هذه المشاهد يمكن أن نقف على بعض منها:
1- لغة المكان: من المشاهد التي حملتها الصورة في لغة المكان، رمزية ميدان فلسطين أو الساحة، وتحديدًا مركزية النصب الموجود فيه والمعروف بـ«قبضة المقاومة» الذي تم فيه تسليم الدفعة الثالثة من المحتجزين لدى المقاومة، وركزت عليه الصورة ووضعاه في بؤرة الكاميرا الذي أخذ انتباه الجميع، وهذه القبضة تشير إلى القوة، حيث تخرج اليد من ناقلة جند «إسرائيلية» ممزقة إياها، وترفع قلادات جنود، وفي تلك القبضة المُصممة بحجم ضخم، تمسك الأصابع بثلاث قلائد تعود لجنود «إسرائيليين» أسرتهم المقاومة الفلسطينية خلال الهجوم «الإسرائيلي» على القطاع في عام 2014م، وتشير إحدى القلائد إلى اسم الجندي «الإسرائيلي» شاؤول أرون، بينما تحمل البقية علامات استفهام.
2- لغة العيون: الحقيقة كانت أبرز اللغات التي تحدثت بها صورة الرهائن، وكانت تحمل من معاني الود والحميمية ما لم يكذبها أحد -إلا أهلها المحتلين حيث كذبوا عيون رهائنهم- حيث كانت نظرات عيونهم تعكس مدى الرحمة التي نالوها أثناء تواجدهم مع المقاومة في غزة، التي نزعت عنهم –كما تقول الصورة- كل صور الفزع والخوف، وهما الشعور الطبيعي في مثل هذه الحالات، كما أن حسن مظهرهم الذي نقلته الصورة يظهر من ناحية أخرى أن هذه لغة عيونهم كانت امتنانًا عن هذه العناية الكبيرة والفائقة.
3- لغة الجسد: تقول لغة الجسد: إن الإنسان يبعد بجسده عمن لا يأمن له، والعكس صحيح، فإن وضعية الجسد تكون قريبة ممن نأمن لهم ويشعرونا بالأمان، ولم تظهر في صورة واحدة أن لاحظ أي مشاهد للصورة أنها تشير إلى فزع أو خوف، بل اتفقت العيون المحايدة على أن لغة الجسد في تلك الصور تشير إلى الأمن والأمان.
الصورة المؤَيدة (الـمُـؤازرة)
قامت الصورة في «طوفان الأقصى» بوظيفة التأييد والمؤازرة للخطابات والبيانات التي ألقتها خلال الخمسين يومًا من معركة «طوفان الأقصى»، فأبرزت نماذج من شجاعة المقاومة وخسائر العدو التي اعترف ببعضها أثناء العدوان، وبدأ يتردد في إعلان البعض الآخر أثناء الهدنة الأولى، حيث أعلن عن 1000 مصاب من جنوده بينهم 203 بحالة خطيرة، بينما ما زال يخفي عدد قتلاه حيث لا يوجد قناعة لدى الرأي العام الداخلي عنده بما يعلنه من أعداد القتلى.
كانت الصورة مؤيدة لخطابات وبيانات الناطق باسم المقاومة، وكانت تأتي منفردة تعبر هي ذاتها عن الحدث وتترك للمشاهد ما يمكن أن يحدد من صدق هذا الحدث وتعبيراته، وهو ما يعبر عنه بالتلاحم بين الصورة والمشاهد، وهذا التلاحم جزء من الوعي بالحدث والقضية كلها.
الصورة المقارنة
من وظائف الصورة في معركة «طوفان الأقصى» المقارنة بين سلوك الاحتلال وسلوك المقاومة، التي ذكرت أنها احتجزت رهائن من النساء والأطفال من أجل المبادلة بالأطفال والنساء الذين يقبعون في سجون الاحتلال منذ سنوات بلا ذنب أو جريرة؛ أي أن الاحتجاز كان وظيفيًا وليس بغرض الاحتجاز أو الانتقام أو ما شابه، ومن ثم ظهرت صور الإفراج عن الأطفال والنساء مقارنة بصور تعامل الاحتلال مع النساء والأطفال سواء عند الاعتقال أو إطلاق السراح، ومثلت وظيفية الصورة هنا بعدًا إضافيًا حيث تتم عملية بصورة عفوية وتلقائية عند المتابع سواء كان ذلك عربيًا أو غربيًا أو حتى «إسرائيليًا».
الصورة الداعمة
وجه آخر للصورة في «طوفان الأقصى»، لكن هذه المرة من خارج غزة، بل من خارج المنطقة العربية كلها، وهي الصورة الداعمة لغزة ولأطفالها ونسائها ومستشفياتها وكل من تعرض للعدوان فيها، حيث غطت أوروبا وأمريكا ومناطق أخرى من العالم تظاهرات مناصرة لغزة وفلسطين، شملت كافة الأجناس والأعراق والأديان في هذه البقاع التي تآمر الرأي الرسمي فيها، بل شارك في عدوانه على غزة، كانت الصورة في مساحتها وتنوعها وشمولها ووعيها ونضجها ومطالبها وتأثيرها -الذي ظهر في الثناء مباشرة بتغير خطابات دول العدوان أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا- ذات معانٍ متعددة، منها أن القضية الفلسطينية عادة مرة أخرى إلى الضمير العالمي الذي لا يمكن تجاهله، بعد أن ظن الجميع حتى أهل هذه القضية أنها انتهت بمشاريع الاستيطان من ناحية، وهرولة العالم العربي إلى التطبيع من ناحية أخرى، والزعم بتهويد العقل العربي من ناحية ثالثة، و«صفقة القرن» المزعومة من ناحية رابعة.
إن صور هذه التظاهرات في لندن وباريس وبرلين وواشنطن وداخل البيت الأبيض وغير ذلك من البقع الغربية والولايات الأمريكية ليست مجرد صور داعمة فقط، بل دخلت إلى أروقة مراكز البحوث والاستخبارات الأمريكية والغربية واستطلاعات الرأي المؤثرة على العمليات الانتخابية في هذه البلدان، أي أن هناك منتظراً على المدى القريب والمتوسط والبعيد لها.