بعد 44 يوماً من الحصار، سقطت القدس في أيدي الصليبيين في 22 شعبان 492هـ/ 15 يوليو 1099م، كان حدثاً مروعاً، وزاد من فجيعته ذبح غالبية مسلمي القدس، واستخدام من بقي منهم على قيد الحياة لحمل الجثث إلى الأرض البور لحرقها، ثم بيعهم كعبيد أو قتلهم.
المصاب كان جللاً، وظن الكثير أن هذا هو آخر عهدٍ للمسلمين بالقدس و«الأقصى» المبارك، وتمادت الظنون بآخرين بأن تلك نهاية الإسلام، خاصة أن سقوط القدس جاء عقب سقوط طليطلة الأندلسية في أيدى النصارى في 25 مايو 1085م، وتحويل مسجدها الكبير إلى كاتدرائية، وسقوط جزيرة صقلية في أيدي «النورمان»(1) في نفس العام.
لكن المتابع لمجريات الأحدث حينها، سيلحظ بوضوح أن الجسد الإسلامي الكبير، الذي كان يتمدد على قارات العالم القديم الثلاث، كان يحتاج إلى هزة عنيفة مزلزلة تنبهه من سباته، لينهض من جديد، ليبقى التساؤل: كيف عادت روح المقاومة في ذلك الجسد لينفض عنه الهزيمة ويستعيد أرضه ومقدساته.
الوعي قبل السيف
بداية اليقظة الإسلامية لمواجهة الصليبيين كانت في مجال الوعي، من خلال استعادة روح الجهاد في النفوس، وإدراك حقيقة المشروع الصليبي، وأنه ليس غزوة عابرة، ولكن رغبة في الاستقرار في تلك الأرض.
وكانت البداية مع الفقيه والمحدث علي بن طاهر السلمي المتوفى عام 500هـ، هذا الرجل الذي لا يُعرف عن حياته الكثير، الذي وهب حياته للتدريس في الجامع الأموي بدمشق، كان هو أول من أطلق شرارة الوعي بالجهاد ضد الصليبيين، ونبه إلى حقيقة المشروع الصليبي، من خلال دروسه، التي احتواها كتاب «أحكام الجهاد وفضائله»(2)، الذي دعا فيه إلى إحياء فريضة الجهاد، باعتبارها فرض عين، ومستعرضاً فضائل الشام، باعتبارها أرض الرباط والجهاد، والربط بين ما يحدث في الأندلس، والحملة الصليبية على الشرق، وطارحاً الوحدة الإسلامية في مصر والشام والعراق كسبيل للتحرير، ومنبهاً أن المشروع الصليبي لا يستهدف الشام وحدها.
لكن أهم ما طرحه السلمي مسؤولية الرعية في قتال الفرنجة، وأن القتال لا يختص به الجند والحكام وحدهم، ولكنه واجب على الأمة كلها، هذه الرؤية وضعت الأمة المسلمة في إستراتيجية المواجهة ضد الصليبيين، وانتشلت الناس من انهيارهم المعنوي.
ومع هذا الوعي المتصاعد بحقيقة الصراع، وأهمية الجهاد، زاد الاهتمام بإنشاء المدارس في الشام لنشر التعليم السُّني، فبنيت «دار الحديث النورية» بدمشق، التي فتحت أبوابها لجميع أبناء المذاهب، فحوصرت روح التعصب والفرقة بين المذاهب، كانت تلك الدار أول دار تنشأ للاهتمام بالحديث النبوي، يذكر التاريخ أن المحدث والمؤرخ أبو القاسم بن عساكر كان يعقد فيها مجلساً كبيراً لقراءة كتابه «الأربعون في الحث على الجهاد»، وحضره صلاح الدين الأيوبي، وسمع الكتاب منه عام 576هـ.
تقوية الوعي بالعدل والكرامة
هذا التوجه جعل السلطة قريبة من الناس، وأوجد التفافاً حول الحكام المجاهدين، فعندما فتح الزنكيون مدنية معرة النعمان(3) عام 531ه، بعد 37 عاماً من الاحتلال الصليبي لها، وكان الزنكيون من أتباع المذهب الحنفي، الذي يرى أن البلاد التي عادت للمسلمين بعدما خرجت عنهم إلى الكفار، فإن أملاك تلك البلاد تذهب لبيت المال، لكن عماد الدين زنكي، مؤسس الدولة، لم ير ذلك، وقال: «إذا كان الفرنج يأخذون أملاكهم، ونحن نأخذ أملاكهم؛ فأيُّ فرق بيننا وبين الفرنج؟! كلُّ من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض؛ فليأخذها»، ورد إلى الناس جميع أملاكهم.
الانتصار يُصنع مبكراً
المتأمل لمسار بناء القوة العسكرية لتحرير المشرق وبيت المقدس، سيلحظ أن الانتصارات الصغيرة المتتالية هي التي صنعت الانتصارات الكبيرة في «حطين» و«عكا»، وكان أهمها الإبقاء على روح المقاومة والجهاد مشتعلة دوماً، طيلة بقاء الصليبيين، وكانت تلك الروح المُقاوِمة تتنقل من العراق إلى الشام إلى مصر حتى تحقق النصر.
كان الانتصار الأول في معركة «ميرسفان»، فقد نجح «الدانشمنديون»؛ وهم التركمان المسلمون الذين كانوا يحكمون شمال الأناضول، في بناء تحالف إسلامي ضم قلج أرسلان، سلطان سلاجقة الروم، وإمارة حلب، لينتصروا على الصليبيين في تلك المعركة الفاصلة عام 1101م، وتمكنوا من أسر أحد كبار قادة الصليبيين وهو بوهيموند الأول الذي بقي في حوزتهم 3 سنوات، ويذكر المؤرخون أن الصليبيين خسروا في المعركة 300 ألف قتيل؛ أي حوالي ثلاثة أرباع جيشهم، وأن هذه الهزيمة عطلت المشروع الصليبي أكثر من أربعة عقود، توقفت خلالها الحملات الصليبية، حتى كانت الحملة الثانية عام 1147م، فانتعشت خلال تلك السنوات روح المقاومة الإسلامية.
ثم جاء الانتصار الثاني سريعاً في معركة «حران» (497هـ/ 1104م) في مواجهة حاسمة بين المسلمين والصليبيين في إمارتي الرها وأنطاكية، كانت «حران» من الهزائم الحاسمة، فقد أوقفت التوسع الصليبي نحو الشرق، وحصرت الصليبيين، فيما استولوا عليه، وحسب المؤرخ البريطاني ويليام بارون ستيفنسون، فقد قضت المعركة على آمال الصليبيين في التقدم نحو العراق، وخيبت آمالهم في السيطرة على حلب لتحويل إمارة أنطاكية إلى دولة كبرى، وقد وصفها المؤرخ المعاصر وليم الصوري بأنه لم تكن هناك كارثة أكبر منها، فقد شجعت الأهالي على مواجهة الصليبيين، وطردهم من المناطق التي استولوا عليها في محيط حلب.
يذكر المؤرخون أن قائدي المعركة سُقمان بن أرتق، حاكم مارين، وجَكَرمِش، حاكم الموصل، استطاعا تجاوز خلافاتهما، والتحالف مدفوعين بروح الجهاد لتحقيق النصر.
كانت روح الجهاد العسكري تتدحرج وتكبر بسرعة مع الأيام، ويرجع الفضل في رفع راية الجهاد ضد الصليبيين إلى مودود بن التونتكين، الذي قاد أول حملة لقتال الصليبيين، فرغم أنه كان يحكم الموصل البعيدة عن الصليبيين، فإنه حمل راية الجهاد، وكوَّن حلفاً إسلامياً لمقاتلتهم في إمارة الرها، فحاصرها 3 مرات خلال 4 سنوات، حتى جاءت معركة «الصنابرة» شمالي الأردن عام 1113م، فحاصر الجيش الصليبي طيلة 26 يوماً، حتى انتصر عليهم، كان ذلك الانتصار تحولاً كبيراً في مسار الصراع، وكانت الصدمة الصليبية ليست في الهزيمة العسكرية، ولكن في قدرة المسلمين على بناء تحالف عسكري لمواجهتهم.
أدرك قادة الجهاد حينها الدرس مبكراً، في ضرورة أن يكون مشروع المقاومة شاملاً، ومدعوماً من قوى الإسلام الكبرى في مصر والعراق والشام، ودون ذلك لن يكون هناك تغلب على المشروع الصليبي، وأدركوا أهمية بناء تحالفات قوية تُعلي وحدة الأمة ومصالحها الكبرى.
__________________________
(1) النورمان: هم سُكَّان الدول الإسكندنافية: السويد، والنرويج، وفنلندا والدنمارك، وهم المعروفون في التاريخ الأوروبي بالفايكنج.
(2) اهتم الأوروبيون و«الإسرائيليون» بهذا الكتاب اهتماماً كبيراً، وخصوه ببعض الدراسات والأبحاث؛ نظراً لأن الروح الجهادية التي بثها، والخطة التي وضعها، هي التي تم تنفيذها وأثبتت نجاحها في استرداد القدس بعد أكثر من 85 عاماً، إذ لم يتجاوز صلاح الدين الأيوبي ومن سبقه من قادة الجهاد الإسلامي، ما طرحه السلمي من روح وأفكار وخطة عمل في الكتاب.
(3) تقع حالياً جنوبي محافظة إدلب بسورية.