من الظواهر القديمة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم ظاهرة الاستخذاء من تراثنا العلمي الزاخر بوصفه إرثًا غابرًا أو تُحَفًا عتيقة غاية الاحتفاء بها تحقيق مخطوطاتها وتعليق لوحاتها، ويتضارب أهل ذلك التيّار مع تيّار مضاد، يعظِّم التراث ويقدّسه كلامًا فحسب، من باب منافسة أو مجاراة الأقوام الآخرين الذين يَعُدُّون المفاخرة بتراثهم من معالم التحضّر!
وترتب على ذلك الموقف –من بين ما ترتب- التلقّف بتلهّف لكل ما يَرطُن به أجنبي لمجرد أجنبيّته، والاعتذار السّقيم عن اعوجاج اللسان العربي حين ينطق بالعربية لاشتغاله بإتقان العُجْمَة! فصارت الرطانة بأية لغة أجنبية –ولو بنطق غير صحيح– مدعاة للفخر، أما إجادة اللسان العربي الفصيح مع اللهجة الدارجة فمدعاة للسخرية أو التعجب من الاهتمام بلسان أثري ولغة غابرة! وسيأتي في السؤال الأخير مزيد تفصيل عن مسألة اللسان العربي،
وترتب كذلك الأخذ المفتون عنهم لما يستحدثونه في كل المجالات الفكرية والعلمية والعملية بلا استثناء ولا ضوابط! مع أنّه ما من إشكال واقع أو يقع اليوم إلا ولعلوم سَلَفِنا الأوّلين فيه جذور إسهام؛ لأنهم رَسَخوا في الأصول التي لا تَخرج عنها طبائع الوجود، مهما تتابعت عليه أزمان وأحوال وأناسيّ، فالراسخ في أصول هُوِيّته وآثار إرثه هو أقدر الناس على الإفادة من جديد زمانه، لأنه أقدرهم على استبانة ذهب الجديد من لمعان التقليد، أمّا مَن لا علم له بالقديم فالكلّ بالنسبة له جديد، وكلّ ما يلمع في تقديره ذهب!
وقد أحسن د. المسيري التعبير عن هذه العقدة في سيرته الذاتية «رحلتي الفكرية»، فيقول: «إنّ أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي، وافتراض أن ثَمَّة معرفة عالمية علينا أن نحصلها متناسين تراثنا وهويتنا، ففي أقسام اللغات ندرسها من وجهة نظر أصحابها، وهذا يعني سلبًا كاملًا للذات تسّبب في تناقص ذكائنا، إذ نحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هويتنا الحضارية، ومعرفتنا العربية أو الإسلامية، وأيّة أدوات تحليلية مرتبطة بهذه الهوية، وهذا الاستبعاد عملية قمع هائلة للذات تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الإنسانية لإنجازها، وإن نجح في إنجازها فإنه يستهلك ما تبقى عنده من طاقة، فعلى الطالب أن يُصفّي ذاته الحضارية حتى يمكنه البدء في الفهم والتحصيل، بدل أن تُشَكِّل الأرضيةَ التي يقف عليها لمقارنتها بالآخر، فالانطلاق من منظور عربي إسلامي يساعد الباحث على اختيار موضوعات تُحوِّل الغرب من تشكيل حضاري مطلق إلى تشكيل ضمن تشكيلات أخرى، فننظر إليه براحة دون قلق؛ لأنه إذا كان تشكيلًا ضمن آخرين فليس علينا قبوله أو رفضه، وإنما يمكننا أن ندرسه كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات، وبطبيعة الحال، فالإنسان الذي لا هُوية له لا يمكنه أن يبدع؛ لأن الإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين، لو نظر بمنظار الآخرين، أيْ لو فقد هُويته، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعًا لهم، كلّ هَمّه أن يقلّدهم أو أن يلحق بهم ويبدع داخل إطارهم بحيث يصير إبداعه في تشكيلهم الحضاري».
وفوق كل ذلك، يفوتنا في إقبالنا المتحمس على مختلف العلوم العلميّة والإنسانية المستوردة من الثقافات الأجنبية، أنها ليست عربية الطابع والروح وإن تُرجِمَت للعربية، وليست مسلمة المنشأ والمقاصد وإن رُقّعَت باصطلاحات إسلاميّة، فتجد المسلم يُقبِل على معرفة الألوهية مثلًا من تصوّرات فلسفية بشرية تناقش «فكرة الإله»، وغالبها إمّا أنه مبنيّ على أساس الكفر بالألوهيّة أصلًا، أو على نفسيّة ندِّيَّة تجعل مقام الألوهية خاضعًا لتفلسف العقل البشري بإطلاق تام، أو على الشِّرك بالله تعالى في أحسن الأحوال! ويفوتُ المسلمَ في خِضَمّ كلّ تلك التضاربات أنه ليس للتوحيد فلسفة إلا التوحيد، ولا مورد لاستقاء التوحيد الخالص إلا من علوم الإسلام الخالصة، لذلك يوم يُقبِل المسلم على الاشتغال بالتصوّر الحقّ أخيرًا، يدخل عليه بعقليّة ونفسيّة تشرّبت نبرات ونفسيات الشرك أو الكفر أو الندية لا شعوريًّا.
ثم إن العلوم الأجنبية لا تقوم في أصولها على مخاطبة المسلم مخصوصًا، بل على مخاطبة “الإنسان” عمومًا، الإنسان بتصوّرهم هم، وبالتالي فمناهجها الفكريّة وبُناها المعرفية وأدواتها التعليمية نابتة في بيئة تَنظُر للدين باعتباره جانبًا من جوانب الحياة المتعددة جدًّا، لا أنه منهج الحياة ومقصد الوجود، وبقدر تعدد جوانب الحياة يكون على المدى تعدد غايات الحياة، وتعدد آلهتها الصغيرة (المال والزواج والمهنة والذريّة والهوى والمزاج..) حول الإله الأكبر، وهكذا يتمدد التوحيد تلقائيًّا في شعور المسلم المتشرِّب لتلك الأجواء غير المسلمة في جذورهـا، ليَسَع مختلف صور الشرك بانسجام ووئام، فلا يعود بينه وبين غير المسلم فارق في تصوّر الحياة أو معاملتها، اللهم إلا في بعض الشعائر الدينية! وبذلك ندرك منشأ الخليط العجيب والمنتشر في عصر الإسلام الحداثي، من نفسيّة مُسَلِّمٍ بالله تعالى لا يُسْلِمُ لله تعالى، وعقليّةٍ مُتَفَرعِنَةٍ بلسانٍ يزعُم العبوديّة، بلا أدنى إدراك لأُولـى قواعــد العبودية وحدودهـا في حقّه، أو حقائق الألوهية وآدابها في حقّ الله تعالى.
وينبّه أ. محمود شاكـر على ذلك التلوث، في كتابه «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا»، فيعرّف الثقافة على أنها «لفظ جامع يقصد به الدلالة على شيئين أحدهما مبني على الآخر، الأول أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإدراك البين، والثاني فروع منبثقة عن هذه الأصول الثابتة المكتسبة بالنشأة، وهي تنبثق حين يخرج الناشئ من إسار التسخير إلى طلاقة التفكير».
فثمّة أدوات ما قبل المنهج يختصّ بها أهل كل ثقافة، ويقصد بتلك الأدوات المنطلقات التي تَحكُم طبيعة المنهج الفكري والأدبي والذوقي للفرد وتنعكس في نتاجه، وهذه الأدوات، هي: اللغة، والثقافة، والهوى أو التحيز الانتمائي.
ففيم إذن اتكاؤنا على المستشرقين والإشادة بنتاج جهودهم لا في تقريبنا للغرب، بل في تقريبنا لأنفسنا وتبسيط علومنا لنا؟! وذلك دون وعي لحقيقة أنهم مفتقرون لأدوات ما قبل المنهج (أي للمنطلقات التي ننطلق منها)، ما بالنا نحاول استقاء فهم تراثنا وعلومنا ممن لغتهم مباينة كل المُبايَنة للغتنا وكذلك ثقافتهم ودينهم مغايران لثقافتنا وديننا؟! ويضاف لذلك داءُ الأهواء عندهم: «فأكثرهم –لا جميعهم- كانوا مُغرضين غير متجرّدين للحقّ ولا باحثين عنه بداية، وغالب ما كتبوه إنما كتبوه لبني قومهم لتشويه صورة الإسلام وأهله، ليصرفوهم عن فهمه على وجهه ويثبطوهم عن الدخول فيه».
والخلاصة أن تراث الغرب أن النهضة الأوروبية لم ينبثق من الصفر أو العدم، بل استوعبوا تراثهم كاملًا أوّلًا، ثم استوردوا على أساسه من علوم الحضارة الإسلامية وصبغوها بصبغتهم على النحو الذي انتهت إليه اليوم، أما نحن، فبخلاف معاداتنا لتراثنا وعُقَد القديم والجديد والأصالة والحداثة، يوم أن استوردنا منهم اصطبغنا بصبغتهم، لأننا نتلذذ بالنوم الفكري ونميل للكسل العقلي ونكتفي بالشكوى والبكاء على الأطلال الحضارية دون أن نتوجه لبذل جهد في تأصيل أصول لنا على أصولنا.