مضت أربعون سنة تاه فيها الأسباط في صحراء سيناء، مات فيها موسى، وهارون، عليهما السلام، وهلك فيها جيلُ الأسباط المتمردين، الذين آذوا موسى، ولم يبق منهم إلا (رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا) (المائدة: 23)؛ وهما: يوشع بن نون، ورجلٌ يقال له كالب.
جاء في السفر الثالث: أنه لما أوشكت الأربعون على التمام أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يكتب أسماء المقاتلة من بني إسرائيل، ممن يحمل السلاح، وأن يجعل نقيباً على كل سبط من الأسباط الاثني عشر، وما ذاك إلا ليتأهبوا لقتال الجبارين عند الخروج من التيه(1).
موسى كان مؤملاً دخول الأرض المقدسة فلما دنى أجله سأل ربه أن يميته قريباً منها
الأُمنية الموسوية
وبينما كان موسى مؤملاً دخول الأرض المقدسة التي طال شوقه لها، أتاه ملكُ الموت قائلاً له: أجب ربك جل جلاله، فلطمه موسى على عينه ففقأها، فشكى ملك الموت ذلك إلى ربه، فقال الله له: «ارجع إلى عبدي، وقل له: فليضع يده على جلد ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة»، فأتاه فقال له، فقال: «ما بعد ذلك؟» قال: الموت، قال: «فالآن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر»، قال: فشمه شمة فقبض روحه(2).
فموسى كان مؤملاً دخول الأرض المقدسة، فلما دنى أجله قبل أن يدخلها، سأل ربه أن يميته قريباً منها، وقد كان ما تمناه، فقد أخبرنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنه رأى موسى وهو يصلي في قبره الكائن بقربها قال: «فلو كنت ثمَّ -أي هناك- لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»، قال النووي: وأما سؤاله الإدناء من الأرض المقدسة، فلشرفها وفضيلة من دفن فيها من الأنبياء وغيرهم، وقال بعض العلماء: ويؤخذ من هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة، والمواطن المباركة، والقرب من مدافن الصالحين(3).
لقد انتهت حياة موسى ولم يدرك ما تمنى، مات موسى عليه السلام بعدما جاهد في الله حق جهاده، موسى الذي كلمه ربُّه جل جلاله تكليماً، موسى الذي صُنع على عين الله فنال محبة الله، موسى الذي اصطفاه الله تعالى بكلامه وخط له التوراة بيده، فخلّف من ورائه شريعة عظيمة، وأمة كثيرة(4).
يوشع بن نون دخل الأرض المقدسة فاتحاً متواضعاً لربه شاكراً له على الفتح والنصر
مات موسى عليه السلام، ومات هارون قبله بسنوات ثلاث، ورحل جيل الأسباط المتمردين الذين تربوا على الكرامات والهبات، ثم خلف من بعدهم جيل التحرير، جيل جمع بين شظف العيش وقساوة الصحراء، وشجاعة موسى وتعاليم السماء.
خير خلف لخير سلف
تولى قيادة هذا الجيل فتى موسى وتلميذُه يوشعُ بن نون، الذي جاء ذكره في الكتاب تلميحاً، وفي السُّنة تصريحاً، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (الكهف: 60)، وفي البخاري: «وأخذ حوتاً في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون»(5).
ولما انتهت مدة التيه، خرج يوشع بن نون بهذا الجيش قاصداً الأرض المقدسة فحاصرها، وكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ، فَقالَ لِقَوْمِهِ: لا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وهو يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بهَا ولَمَّا يَبْنِ بهَا، ولَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتاً ولَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، ولَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَماً أَوْ خَلِفَاتٍ وهو يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا، فَغَزَا، فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلَاةَ العَصْرِ أَوْ قَرِيباً مِن ذلكَ، فَقالَ لِلشَّمْسِ: إنَّكِ مَأْمُورَةٌ وأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليه».
وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة بسند صححه الألباني: «إن الشَّمسَ لم تُحبَسْ على بشرٍ قط إلَّا ليُوشعَ لياليَ سار إلى بيتِ المقدسِ»، ولماذا حُبست الشمس؟
بنو إسرائيل غلبت عليهم طباعهم الدنيئة فحرَّفوا الكلام وبدَّلوا قولاً غير الذي قيل لهم
قال العلماء: لأنه قد دنا بجيشه من الأرض المقدسة عصر الجمعة، وقد خشي أن يدخل عليه الليل قبل أن يفتحها، ولأن القتال يوم السبت كان محرماً على بني إسرائيل، مما شأنه أن يعطي الأعداء فرصة لتقوية جيشهم، وإصلاح أسوار المدينة؛ لذا توجه يوشع إلى الشمس مخاطباً لها، ثم توجه متضرعاً إلى ربها أن يحبسها عن الغروب حتى يتم الفتح والنصر، فكان الفتح ما بين المغرب والعصر(6).
الطبع يغلب التطبُّع
لما دخل يوشع بن نون الأرض المقدسة فاتحاً، أراد أن يظهر تواضعه لربه سبحانه شكراً له على ما مَنّ به عليهم من الفتح والنصر، فأمر بني إسرائيل أن يدخلوا المدينة مطأطِئين رؤوسهم ذلاً وتواضعاً لمن أعزهم ونصرهم، وأن يقولوا «حِطَّة»؛ أي حُطَّ عنا خطايانا التي سلفت بسبب إعراضنا عن الدخول أول مرة، قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 58)، فماذا كان الجواب: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (البقرة: 59).
لقد رجعت حليمة إلى عادتها القديمة! فساروا على طباع أسلافهم، فخالفوا ما أُمروا به قولاً وفعلاً؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم -مقعدتهم- وهم يقولون: حبة في شعرة».
نعم الطبع يغلب التطبع، فقد حاولت بنو إسرائيل أن تتطبع بالأخلاق والمبادئ الطيبة، لكن طباع اللؤم المتغلغلة في جيناتهم الوراثية قد طغت وغلبت عليهم فحرفوا الكلام وبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم وهذه حرفتهم المتقَنَة.
الصهيونية خرجت من عباءة اليهودية المحرّفة واحتلت أرض فلسطين بتزييف التاريخ
يقول صاحب «معركة الوجود»: «لليهود مقدرة عارمة على تزييف الوقائع واختلاقها، وتحريف الحقائق عن مواضعها، حتى كأنها حرفة حياتهم، لا يستشعرون في مزاولتها ما يستشعره غيرهم من لوم الضمير، وتأنيب النفس، إذ اليهود قد ماتت مشاعرهم وقست قلوبهم؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (المائدة: 13)، فاليهود يحرفون كل شيء حتى لو كان كلام الله، وهم لا يفعلون ذلك ناسين أو جاهلين، وإنما يزاولون التحريف عامدين، عالمين بخطورة وضراوة ما يفعلون»(7).
والتاريخ المعاصر شاهد على براعتهم في تغيير الحقائق وتزييف الوقائع، فلو رأيتهم كيف ادَّعَوا حق العودة إلى فلسطين، لو رأيتهم كيف ادعوا أن أهل فلسطين قد باعوا لهم أرضها، لو رأيتهم كيف قلبوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، فجعلوا من الغاصبين المحتلين أصحاب أرض، وجعلوا من أهل فلسطين والمقاومين جماعات إرهابية، لو رأيتهم كيف زيفوا جُلّ حقائق التاريخ، لعلمت أن التحريف حرفة حياتهم التي يزاولونها بإتقان.
تقول د. أنيسة فخرو: لقد استطاع اليهود تحريف الدين، فهل يصعب عليهم تحريف التاريخ والجغرافيا؟
إن الصهيونية العالمية خرجت من عباءة اليهودية المحرّفة، ووضعت هدفاً لها يتمثل في احتلال أرض فلسطين بتزييف التاريخ والجغرافيا، ثم احتلال بقية أقطار الوطن العربي لتأسيس دولة تمتد من النيل إلى الفرات.
وما الادعاءات الحالية بمطالبة الكيان الصهيوني بتعويضات من بعض الدول العربية عن ممتلكات اليهود منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن إلا دليل على التحريف، فها هي «إسرائيل» تطالب السعودية بـ100 مليار دولار، وتطالب الحكومة المصرية برد أملاك اليهود المصريين الذين تركوا مصر منذ بداية عام 1948م.
ويتناسون أن الصهيونية هي التي بثت الرعب في قلوب اليهود العرب في مختلف الأقطار العربية، وحرّفت الأحداث وأرغمتهم أن يهاجروا إلى «أرض الميعاد» لكي تزداد أعدادهم هناك، كما يتناسون الرعب والمجازر التي فعلوها لتهجير الشعب العربي الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي من مدنهم وقراهم واحتلالها قسراً وقوة ثم يدّعون زوراً وتحريفاً أنهم باعوا لهم الأرض(8).
مفارقة الختام
تتشابه الأحداث بين دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، فكلاهما كان بعد حرمان واضطهاد، لكن شتان بين دخول النبي الكريم، الذي دخلها وهو راكب على ناقته متواضعاً وقد كاد طرف لحيته أن يمس مَوْرك رحله مما يطأطئ رأسه خضوعاً لله عز وجل ومعه الجند والجيوش يقتدون بفعله، ودخول بني إسرائيل الذين غيّروا وبدّلوا ما أمرهم الله به قولاً وفعلاً، فدخلوا ساخرين مستكبرين على أوامر الله عز وجل.
وعلى أي حال، فإن فتح الأرض المقدسة قد تحقق بقيادة يوشع بن نون الذي سار على عهد موسى، وهارون، حاكماً بكتاب الله التوراة مدة سبع وعشرين سنة حتى دنا منه الأجل ولحق بإخوانه في الرفيق الأعلى، لتطوى صفحة أخرى من شهادة التاريخ على بني إسرائيل، ولنفتح في مقالنا القادم صفحة جديدة لنرى من تولى قيادتهم بعد موسى، وهارون، ويوشع بن نون.
________________________
(1) قصص الأنبياء، محمود المصري، قصص الأنبياء، ابن كثير، بتصرف.
(2) أصل الحديث رواه مسلم وأحمد في مسنده.
(3) شرح مسلم للنووي.
(4) بتصرف من كلام ابن تيمية في المدارج، وابن كثير في القصص.
(5) وقد قال بنبوته الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية»: وهو قول الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» فقال: هذا النبي هو يوشع بن نون.
(6) صحيح القصص النبوي.
(7) معركة الوجود، عبدالستار فتح الله.
(8) مقال «اليهودية المحرفة» بجريدة «الراي» الكويتية.