في هذه السلسلة «الاحتلال الصهيوني.. تاريخ من الإجرام»، نلقي الضوء على بعض ما ارتكبه الاحتلال الصهيوني من جرائم بحق فلسطين؛ شعبًا وأرضًا ومقدسات؛ في عدوان غاشم واعتداء ممنهج، ترك بصماته على البشر والحجر والشجر، آملين أن تكون هذه السلسلة تذكيرًا بطبيعة هذا الاحتلال الغاصب، وكشفًا لما ارتكبه من جرائم.
من الجرائم الأساسية للاحتلال الصهيوني في عدوانه على فلسطين جريمة التهجير؛ التي هي عدوان سافر على الإنسان والمكان، وجاءت مترافقة لبداية هذا الكيان الغاصب في النشأة والتوسع، ومجسِّدة لفلسفته في الاحتلال والاستيطان، وملخِّصة لأهدافه من القتل وبث الدعايات النفسية الضاغطة.
لماذا لجأ الاحتلال للتهجير؟
مثَّل التهجير بالنسبة للاحتلال الصهيوني ضرورة قصوى، تساوي في أهميتها تحقيق المعنى الوجودي له، وتثبيت أركان كيانه الغاصب؛ ذلك لأمرين مهمين:
1- أن الكيان الصهيوني يقوم على فلسفة أساسية انطلق منها وروَّج لها، وهي أن «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
فما دام الوجود الفلسطيني متحققًا وقائمًا، بوجود أصحاب الأرض، الذين لهم امتداد تاريخي وحضاري متجذر فيها؛ فإن سردية الاحتلال هذه -التي يحاول بها أن يبرر وجوده- تصبح سرديته مفضوحة وغير مقنعة.
2- أن الاحتلال الصهيوني مشروع إحلالي استيطاني، يقوم على طرد أصحاب الأرض ليحل محلهم، وليست لديه أي إمكانية للتعايش أو حتى للقبول بهم ولو تحت السيطرة؛ وذلك بخلاف أنواع أخرى من الاحتلال تقوم على إخضاع شعوب البلاد المحتلة، لإرادته، وليس إفنائها؛ مع استنزاف ثرواتها دون رقيب أو حسيب.
التهجير لم يكن اختيارًا
من المهم في فضح جرائم الاحتلال، فيما يخص التهجير وإفراغ الأرض من أصحابها، أن نوضح أن هذا التهجير لم يكن اختيارًا من قِبَل الفلسطينيين؛ أي أنهم لم يغادروا أرضهم ومدنهم وقراهم ومزارعهم عن طواعية، ولو حدث ذلك لكان «هجرة» وليس «تهجيرًا»، ولعل هذا يتفق مع المعنى اللغوي للكلمة؛ فالهجرة تكون عن طواعية واختيار، أما التهجير فعن قسر وإجبار.
وقد حرصت الدعاية الصهيونية الكاذبة على ترويج أن الفلسطينيين هم من باعوا أرضهم وتركوها بالاختيار؛ وليس ذلك صحيحًا، وإنما أُجبروا على مفارقة أوطانهم ومزارعهم تحت ضغط الإرهاب والقتل.
وهنا نورد شهادة مهمة للسير جون باغوت جلوب، القائد السابق للجيش العربي الأردني، إذ قال: إن القصة التي أقنعت الدعايةُ اليهودية، في البدء، العالمَ بقبولها، عن مغادرة اللاجئين العرب بمحض اختيارهم؛ لا أساس لها من الصحة، فالمهاجرون بطوع اختيارهم لا يغادرون منازلهم بمجرد الثياب التي تكسو أبدانهم! والذين يقررون النزوح من بيت لآخر لا يفعلون ذلك بسرعة وعجلة تُفقدهم بعض أفراد أُسَرهم؛ الزوج يفقد زوجته، والأب يفقد ولده، وهلم جرا، الواقع هو أن الغالبية تركوا في ذعر وهلع فرارًا من الذبح، والحقيقة أن ما حثهم على ذلك هو المذابح التي وإن لم تكن عديدة في وقت واحد، فقد كانت كافية لحملهم على المضي في الفرار(1).
جريمة مترافقة مع البداية
كذلك مما تتصف به جريمة التهجير، التي مارسها الكيان الصهيوني، أنها جريمة بدأت مبكرًا مع نشأة الكيان؛ الذي كان، ولا يزال، مصابًا بالسعار لتفريغ القرى والبلدات من سكانها، والتهام المزيد من البيوت والأراضي والمزارع.
فالنزوح الفلسطيني كان قسريًّا ومفاجئًا، وتم في ظروف مفجعة، وضمن مخطط صهيوني دقيق ومدروس لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين، ولقد رافقت موجاتُ النزوح موجات الإرهاب الصهيوني وكانت نتيجة حتمية لها(2).
ويمكن ملاحظة أن هذا التهجير تم على مراحل؛ ففي المرحلة الأولى التي سبقت مجزرة دير ياسين، في 9 أبريل 1948م، نزح 60 ألف عربي، وفي المرحلة الثانية بعد مجزرة دير ياسين، التي تميزت بالعنف المخطط الواسع النطاق، نزح 350 ألف شخص من مدن طبرية وحيفا ويافا وبيسان وعكا والأحياء العربية الغربية في القدس ومن عشرات القرى، وفي المرحلة الثالثة التي امتدت خلال شهر يوليو 1948، وفيه سقطت مدن اللد والرملة وعشرات القرى العربية، نزح 160 ألف عربي، وكانت المرحلة الرابعة التي امتدت من شهر أكتوبر 1948 إلى فبراير 1949م حين قامت القوات الصهيونية بهجوم على الجبهة الجنوبية، أدى إلى تشريد 175 ألف عربي من لواء غزة، وتشير تقديرات وكالة الغوث الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى أن عدد النازحين حتى يونيو 1962م بلغ مليونًا و174 ألف شخص(3).
أسلوبا القتل والدعاية النفسية
لقد استخدم الكيان الصهيوني لإجبار الفلسطينيين على ترك بيوتهم وأرضهم ومزارعهم أعنف الوسائل؛ بحيث لا يترك لهم خيارًا إلا المغادرة، وبسرعة، وأبرز الأساليب التي لجأ إليها الاحتلال، وكما يشير د. عبدالوهاب المسيري، أسلوب القتل والعنف الجسدي، وأسلوب الدعاية الكاذبة والتخويف لممارسة الضغط النفسي الذي يدفع لعدم التردد في اتخاذ قرار الرحيل.
ويوضح المسيري أن إفراغ فلسطين من سكانها هدف صهيوني، وضرورة يحتمها منطق الأسطورة والعنف الإدراكي الصهيوني، ولكي يحقق الصهاينة مخططهم تبنوا تكتيكات مختلفة؛ فلم يكن العنف المسلح الوسيلة الوحيدة، وإنما استخدموا وسائل أخرى أيضًا، واقد اتهم عالم الاجتماع البولندي اليهودي، لودفيج جومبلوفيتش، هرتزل بالسذاجة السياسية، ثم طرح عليه سؤالاً بلاغيًّا: هل تريد أن تؤسس دولة بدون عنف مسلح أو مكر؟ هكذا.. بالتقسيط المريح(4)!
ويبين المسيري أن العنف المسلح والمكر هما الأداتان اللتان استخدمهما الصهاينة؛ ويتمثل المكر في نشر الذعر والإرهاب بين العرب، أما العنف فيتمثل في تعريضهم للإرهاب الفعلي، ويمكن القول: إن الإرهاب الصريح ضد الفلسطينيين قد استُخدم قبل عام 1948م، ثم خلال فترة الحرب كلها؛ أما نشر الرعب بين السكان؛ أي الحرب النفسية، فقد تصاعدت حدتها في المرحلة الأخيرة، وهذان الأسلوبان متداخلان، بل إنهما في الواقع مجرد عنصرين في مخطط واحد متكامل؛ ففي حالة مذبحة دير ياسين، على سبيل المثال، حرص الصهاينة حرصًا شديدًا على إطلاع جميع الفلسطينيين على الحادث، ليقوموا من خلاله بغرس الخوف والهلع في القلوب، وكان أكثر أساليب الحرب النفسية شيوعًا هو أسلوب استخدام مكبرات الصوت والإذاعات لخلق جو من الذعر بين سكانٍ قُضي على قيادتهم أثناء الثورات المتكررة السابقة، وترديد عبارات مثل: «ارحموا زوجاتكم وأطفالكم، واخرجوا من حمام الدم هذا، وإن مكثتم هنا، فإنكم ستجلبون على أنفسكم الكارثة»(5).
التهجير يعود من جديد.. ويفشل!
وفي سعي الكيان الصهيوني للرد على «طوفان الأقصى»؛ الذي كان مفاجئًا ومزلزلاً له على مختلف المستويات، وجد الكيان أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، كخطوة أولى تتبعها الضفة الغربية، ربما قد حان وقته، لا سيما مع ما توافر للكيان إثر ضربة الطوفان من حشد غربي لم يحظ به منذ سنوات.
وقد خطط الكيان الصهيوني لتنفيذ هذا التهجير على مراحل وبأساليب تدميرية قاسية(6).
لكن صمود المقاومة البطولي، وتمسك الفلسطينيين بأرضهم؛ رغم شدة العدوان، وكثافة القصف، وهمجية التدمير، قد أفشلا مخطط التهجير، وأكدا من جديد تمسك هذا الشعب الأبيّ بأرضه ومقدساته.
_____________________
(1) دليل القضية الفلسطينية- أسئلة وأجوبة، إبراهيم العابد، مركز الأبحاث بمنظمة التحرير الفلسطينية، 1969م، ص 103.
(2) المصدر نفسه، ص 106.
(3) المصدر نفسه، ص 106.
(4) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (المختصرة)، د. عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، ط6، 2010م، (2/ 398).
(5) المصدر نفسه (2/ 398).
(6) رغم تراجع الحكومة «الإسرائيلية» عن تصريحاتها العلنية عند بداية حربها في غزة، بشأن تهجير فلسطينيي غزة إلى مصر، فإن مراقبين يرون أن السيناريو «الإسرائيلي» بالتهجير القسري للفلسطينيين ما يزال قائمًا، بل إنه يمثل الهدف الأكبر لـ«إسرائيل» في حربها الدائرة في غزة.
ويرى محللون أن الخطوات التي تتخذها «إسرائيل» على الأرض، من عمليات قصف وتدمير لكل مقومات الحياة، لا تؤدي إلا لخيار واحد، وهو دَفْعُ فلسطينيي غزة دفعًا باتجاه الحدود المصرية وإجبارهم على الخروج قسرًا أو طوعًا بحثًا عن حياة، «بي بي سي»، 7 ديسمبر 2023م.