خلق الله الإنسان لغاية عظيمة؛ ألا وهي عمارة الأرض وعبادة الرب، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).
لكننا نلمح ثمة أمراً آخر في الحوار الرباني عندما أخبر الله الملائكة بأنه سيخلق بشرًا ليعمروا الأرض، حيث قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) (البقرة: 30)، لتقع أول جريمة قتل بشرية على يد أول ولد من أولاد هذا الخليفة، رغبة في الانتقام من أخيه بدافعٍ من الحقد والحسد.
يقول ابن خلدون في «المقدمة»: اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل(1).
وإن المتأمل لخط سير الحروب عبر التاريخ يرى أن هذه الرغبة الانتقامية ناجمة عن 5 دوافع رئيسة، هي:
الأول: الحرب بسبب الدين والعقيدة:
والمراد بالحرب الدينية هي الحرب المسببة أو المبررة من أساسها بسبب الاختلافات الدينية، سواء كانت بين طوائف الديانة الواحدة، أو بين الديانات المختلفة.
وتكمن خطورة الحروب الدينية في كونها أكثر شدة وعنفاً وإبادة وتغييباً لقيم التسامح، حيث تكون -أحيانًا- بين أطراف ينتمون لذات الدين، فيرى كل منهم بأنه مكلف بأمر سماوي لتطهير الدين من الطرف الآخر المخالف للحقيقة التي يملكها وحده(2).
وعلى الرغم من شدة خطورة هذا النوع من الحروب، فإنها تشكل نسبة ضئيلة من حيث كونها دافعًا للحرب مقارنة بالدوافع الأخرى، حيث بلغت 6.98%، وفقًا لـ«موسوعة الحروب»(3).
أمثلة على الحروب الدينية
الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، ففي عام 1577م أرسل ملك إسبانيا الكاثوليكي جيشًا إلى هولندا لإخماد الحركة البروتستانتية هناك، وبعد هزيمته في هولندا، جهز أسطولاً باسم الدين لمقاتلة الإنجليز عام 1588م فأحرق واغتصب ونهب وارتكب المجازر بحق الشعب الإنجليزي.
وفي فرنسا تم ذبح 25 ألف بروتستانتي في يوم عيدهم وبأوامر من الكنيسة الكاثوليكية.
وفي عام 1618م بدأت حرب الثلاثين عاماً، وانتهت بالخراب الكلي في ألمانيا عام 1648م، فلقد حاول الإمبراطور فريناند الثالث أن يمحو البروتستانتية في ألمانيا، فأرسل جيوشه لتدمر وتقتل 14 مليون نسمة.
وهكذا عم الخراب أوروبا كلها من شمالها إلى جنوبها، واستمرت الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت قرنين من الزمان، حتى ظهر المفكر الإيطالي فوستوس سوزيني عام 1604م لينشر مبدأ التسامح؛ فاشتعلت الشرارة من إيطاليا لتنير أوروبا كلها، ومنذ تلك اللحظة عرفت أوروبا قيمة التسامح وتقبل الآخر(4).
الثاني: الرغبة في الانتقام بسبب المفاخرة والغيرة والثأر:
وغالبًا ما يقع ذلك بين القبائل المتجاورة، والعشائر المتناظرة، والعوائل المتنافسة.
ومثله ما حدث في الحرب التي استمرت 120 سنة بين الأوس والخزرج التي بدأت بـ«يوم سمير» وانتهت بـ«يوم بعاث»، فقد كان من خبرهم أن رجلاً حليفاً للخزرج يقال له كعب فاخر الأوسَ بشيء، فغضب من الأوس رجل يقال له سمير، وشتمه ثم رصده حتى خلا به فقتله فغضب زعيم الخزرج وطلب الرجلَ من عشيرته فأنكروا معرفته، ثم عرضت الأوسُ عليه الدية فقبلها فأرسلوا إليه نصف دية، لأن الرجل حليف لا نسيب، فأبى إلا دية كاملة فامتنعوا، ثم اشتد الخلاف حتى أفضى إلى المحاربة، وظلت نار الحرب بينهم مستعرة تهدأ أحياناً وتشتعل أحياناً حتى كانت آخر حلقاتها في مكان يقال له «بعاث»، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين(5).
الثالث: الحرب بدافع السياسة والاقتصاد:
حيث يكون المحرك الأساسي في هذه الحروب الرغبة في بسط النفوذ السياسي والعسكري والتطلع إلى الاستلاء على خيرات بعض البلدان، وأكثر ما يقع هذا النوع من الأمم الظالمة والدول الطاغية، ممن جعلوا أرزاقَهم في قذائف دباباتهم وطلقات بنادقهم، ومعاشَهم فيما بأيدي غيرهم.
ولقد كان هذا الدافع من أخطر أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها 70 دولة، وأدت إلى مقتل ما يزيد على 22 مليون من البشر.
فعلى الرغم من أن السبب المباشر لنشوب الحرب العالمية الأولى حادثة اغتيال ولي عهد النمسا مع زوجته من قبل طالب صربي عام 1914م أثناء زيارتهما لسراييفو، فإن بعض الدارسين قد رصدوا جملة من الأسباب غير المباشرة، مهدت لقيام الحرب، من أبرزها تصارع الدول الأوروبية للسيطرة على منطقة البلقان، إذ سيطرت النمسا حينها على البوسنة والهرسك عام 1908م، فاشتعلت حربا البلقان الأولى والثانية.
بالإضافة إلى الصراع بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا على بسط النفوذ في شمال أفريقيا، حيث أدى ذلك إلى توتر العلاقات الدولية عام 1913م.
كما أن التنافس بين الدول الإمبريالية للسيطرة على الأسواق العالمية لتصريف فائض الإنتاج الصناعي جعلها تدخل في تحالفات سياسية وعسكرية أدت إلى رفع نفقاتها العسكرية، التي رفعت بالطبع من حدة الحرب وقوتها التدميرية، فكانت النتيجة إبادة ما يزيد على 22 مليون من البشر(6).
الرابع: الحرب بدافع احتلال أو انفصال الأراضي والبلاد:
حيث تقع هذه الحروب عادة بين بعض الدول المتجاورة، حيث يتنازعون على المناطق الحدودية، التي تدعي كل دولة حق امتلاكها.
ومثله الصراع المسلح الذي وقع بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963م على الحدود الجنوبية بينهما، التي عرفت بـ«حرب الرمال» حيث خلّفت توتراً مزمناً في العلاقات المغربية الجزائرية ما زالت آثارها موجودة إلى الآن(7).
ومنه أيضاً النزاع الذي وقع بين الكويت والعراق، إبان استقلال الكويت عن الاستعمار الغربي عام 1961م، إذ رفض العراق الاعتراف بذلك معتبراً أن الكويت جزء منه، ثم تراجع بعد ذلك.
وقد يكون النزاع بين أبناء الدولة الواحدة سعيًا إلى الانفصال والتفرد بالحكم؛ كما حدث في الحرب الأهلية السودانية والمعروفة باسم «تمرد أنانيا»، وهو صراع وقع بين أعوام 1955 إلى 1972م بين الجزء الشمالي من السودان والجنوبي منه الذي طالب بمزيد من الحكم الذاتي الإقليمي، حيث أسفرت عن أكثر من نصف مليون قتيل.
ثم تكرر الصراع فيما عرف بالحرب الأهلية السودانية الثانية (1983 – 2005م) حيث أسفرت الحرب عن مقتل ما يقرب من مليوني مواطن، ونزوح 4 ملايين آخرين(8).
الخامس: الحرب بسبب النزاع على الملك والحكم:
وقد وقع ذلك كثيرًا في تاريخ الأمة الإسلامية، لا سيما عقب الخلافة الرشدة، حيث أصبحت الإمارة مطلبًا يسعى الكثير للاستيلاء عليه.
فبعد مقتل الإمام عليّ رضي الله عنه، سادت حالة من الانقسام والصراع على السلطة كادت أن تزج بالمسلمين في أتون حرب خطيرة، لولا لطف الله.
فقد تنازل الحسن بن عليّ عن المطالبة بالخلافة وسلّمها إلى معاوية شريطة أن يعود الأمر شورى إلى الأمة بعد معاوية، لكن معاوية رأى من الأصلح تولية ابنه يزيداً ولاية العهد، فلما وصل يزيد لسدة الحكم عارضه مشاهير الصحابة، ولذا شهد عهدُه أحداثًا ساخنة كان على رأسها استشهاد الإمام الحسين مطلع سنة 61هـ في كربلاء، ثم وقعة الحَرَّة بالمدينة المنورة حين ثار أهلها سنة 63هـ، لإسقاط حكم يزيد.
ثم جاء إعلان عبدالله بن الزبير خروجه على حُكم الأمويين، واتخذ من مكة المكرمة مقرًا له فدعَا الناس لبيعته فبايعوه، ثم أمرَ بطرْد عُمال يزيد من مكة والمدينة، ومن هنا انطلقت شرارة صراع استمرت 9 سنوات بين ابن الزبير والأمويين حيث كانت الغلبة لهم بعد حصار ابن الزبير في مكة 7 أشهر والقضاء عليه(9).
___________________
(1) المقدمة، ابن خلدون.
(2) مقال «الحرب الدينية المقدسة»، موقع العربية.
(3) موسوعة ويكيبيديا.
(4) مقال «الحرب الدينية»، جريدة الراي.
(5) الكامل في التاريخ، ابن الأثير.
(6) موسوعة ويكيبيديا.
(7) المرجع السابق.
(8) المرجع السابق.
(9) «الانقلابات العسكرية في التاريخ الإسلامي»، قناة الجزيرة.