مدخل إلى السلسلة
تتوخّى هذه السلسلة «لماذا نقاوم؟» بيان المنطلقات التأسيسية للمقاومة الفلسطينية في إطارها الإسلامي، فبالرغم من التحفّز الضروري المركوز في الإنسان للدفاع عن نفسه، وجلاء الدوافع لفعل المقاومة، لا سيما مقاومة المستعمر الأجنبيّ، فإنّ فعل المقاومة يبقى مُعرّضًا باستمرار للتشويش، بدفع من القوى المعادية، أو لتشابكه مع قضايا الجدوى والكلفة، التي لا بدّ أن تساهم في التباس مفهوم المقاومة في وعي الكثيرين، دون أن يكون ذلك عن سوء غرض؛ بقدر ما هي أسئلة منبثقة عن ملاحظة نتائج الفارق الهائل في القوّة بين طرفي الصراع، وذلك كلّه يتأثّر صعودًا وهبوطًا بالظرف التاريخي، الذي قد يصعد في مراحل منه تأييد المقاومة والإيمان بها وبضرورتها، ويهبط في مراحل أخرى، لأسباب متعلّقة بتحوّلات الهيمنة السياسية في العالم والإقليم العربي وانعكاس ذلك على الثقافة والوعي والبنى الاجتماعية، كما يتغيّر الموقف من المقاومة؛ مفهومًا وممارسة، بتغيّر الموقف من الفاعل، فالعداء للإسلاميين، من قوى الهيمنة أو من تيارات فكرية واجتماعية مخالفة لهم، يجترح عمليات تشويه ممنهجة، للمقاومة نفسها، كون الإسلاميين هم المتصدّرين لها في هذه اللحظة من التاريخ.
لهذه الأسباب وغيرها تأتي هذه السلسلة لتجلية الأسس التي تجعل من فعل المقاومة ضروريًّا، لكونه من ماهية الغريزة الإنسانية، ولأنّه لا بدّ منه لأجل التوازن الإنساني الكوني، مهما اتسعت هوّة القوّة بين طرفي الصراع، وهذه السلسلة وإن كانت تتلمّس النور لبصيرتها من كتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرته، فإنّها تنظر من ذلك إلى التاريخ وذاكرته، والإنسان واجتماعه وأحواله.
عن القابلية البشرية للتردّي والانحراف
يكشف القرآن عن الاستعدادات القائمة دائمًا في الإنسان للتردي والانحراف، وذلك يرجع إلى أصل الخِلقة الضعيفة المناسبة لأرض التكليف ﴿وَخُلِقَ الإِنسانُ ضَعيفًا﴾ (النساء: 28)، وما فيها من ضعف أصليّ للعزيمة ونزوع نحو النسيان ﴿وَلَقَد عَهِدنا إِلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا﴾ (طه: 115)، ممّا يجعل المجاهدة الفردية الذاتية؛ التكليف الحاضر طول الوقت لمدافعة ذلك الضعف الإنساني الأصليّ الذي جُبِل عليه الإنسان لغايات الابتلاء الدنيوي ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾ (العنكبوت: 69).
ثمّ إنّ هذا الضعف لا بدّ أن ينعكس في الاجتماع الإنساني، لاستكمال الفتنة الدنيوية بهذا الاجتماع؛ ﴿وَجَعَلنا بَعضَكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصيرًا﴾ (الفرقان: 20)، وبسبب التفاوت الواقع أصلاً بين البشر؛ خلقًا ورزقًا، ﴿وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾ (الأنعام: 165)، فلا بدّ من حصول الفساد العامّ، باستعلاء بعض البشر على بعض واستباحتهم وإخضاعهم.
النزوع السريع نحو النسيان، والغفلة عن الكرامة الآدمية، بالخضوع لغير الله تعالى، يظهر واضحًا في قصّة قوم نوح عليه السلام الذين قالوا: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغوثَ وَيَعوقَ وَنَسرًا﴾ (نوح: 23)، فقد جاء في بعض الآثار وكتب التفسير أنّهم كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم أتباع يَقتدُون بهم، فلمّا ماتوا قال أصحابُهم الذين كانوا يَقتدُون بهم: لو صوّرناهم كان أشوَق لنا إلى العبادة إذا ذَكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسْقَون المطر.
يتعمّق الفساد، وتشتد الاستباحة للكرامة الآدمية، أكثر، حينما يتخذ استعباد الناس طابعًا سياسيًّا، كما هو حال فرعون، الذي كثر ذكره في القرآن، ليكون نموذجًا لمظاهر العلوّ الإفسادي، سواء باستثماره في الضعف الإنساني وقدرته على هندسة وعي الجماهير وتكييف أنماطهم الاجتماعية بما يخدم علوه ﴿فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطاعوهُ إِنَّهُم كانوا قَومًا فاسِقينَ﴾ (الزخرف: 54)، فأمعن في إخضاعهم ﴿قالَ فِرعَونُ ما أُريكُم إِلّا ما أَرى وَما أَهديكُم إِلّا سَبيلَ الرَّشادِ﴾ (غافر: 29)، كما أمعن في توظيف تناقضات المجتمع الأهلي لتقسيمه وتسهيل السيطرة عليه ﴿إِنَّ فِرعَونَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَها شِيَعًا يَستَضعِفُ طائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبناءَهُم وَيَستَحيي نِساءَهُم إِنَّهُ كانَ مِنَ المُفسِدينَ﴾ (القصص: 4)، وعلى أيّة حال فإنّ المستويات التي يمكن أن يصل إليها الظلم والاستعباد واستباحة الخلق معلومة، قصّ القرآن أطرافًا منها بحكاية أمر فرعون والرجل الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وظاهرة معاينة مشاهدة في التاريخ الماضي، البعيد منه والقريب، والواقع الراهن.
عن ضرورة المقاومة لصلاح العالم
ومن ثمّ، فإنّ التردي الإنساني مع طول الأمد، وتقادم الوقت، إن لم يجد من يدافعه، يستطيل زمانًا ومكانًا ليستغرق البشر كلّهم، كما في الحديث عن الفترة قبل بعثة سيّدنا النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم: «وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، وذلك لأنّ الله تعالى لا يرضى بالظلم، وجعل الظلم تسمية للشرك الذي هو أقبح ما يقارفه الإنسان من السوء والخطيئة، وذلك لما في الشرك من فعل العبودية لغير الله، في حين أنّ الله تعالى خلق الإنسان مكرّمًا.
هذه الحال من الاختلال، بالضرورة تتسم بتفاوت موازين القوى بين الأطراف، بين الظالمين والمظلومين، بين المستكبرين والمستضعفين، وهو اختلال من شأنه البقاء والثبات، إذ تضمن القوّة الراسخة لصاحبها دوام المصالح والقدرة على إخضاع الآخرين، وهذا الدوام ليس دوام أفراد من الظلمة والطغاة لا بد من زوالهم بالموت، ولكنه دوام البنى والهياكل الضخمة، كما هو شأن الدول الحديثة، وشأن الاستعمار الغربي للعالم، ولا سيما لبلاد المسلمين، في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، الذي بقي منه في صورته المباشرة، الاستعمار الصهيوني لفلسطين.
إنّ الفارق الهائل في القوّة الذي يميل بنحو كاسح، وبما لا يقارن في أغلب الأحوال، لصالح الظالم والمستعمر، يجعل القضية ليست في الكلفة والجدوى، ولكن في القيام بالواجب ابتداء، من حيثيتين، الأولى واجب الشهادة بالحق بالقول والفعل، بقطع النظر عن الثمرة القريبة المرجوة لهذه الشهادة، وهذا واجب فردي ابتدائي تأسيسي، يمتد إلى الحيثية الثانية وهي أنّ الامتناع الكامل عن مدافعة الباطل إنّما هو تكريس للباطل، إذ لا يمكن دفع الباطل، إلا بمدافعته من الأدنى ممّا يتوفر عليه الضمير إلى الأعلى بما يتوفر في الأيدي، ولذلك قصّ القرآن قصّة المؤمنين الذين حُرّقوا في نار الأخدود، ووصف مآلهم بالفوز الكبير، وكشف قصة رجل سورة ياسين الذي نهض بالواجب نصرة للمرسلين فجاء من أقصا المدينة يسعى، والرجل الذي في سورة القصص الذي جاء كذلك من أقصى المدينة يحذّر موسى عليه السلام من كيد فرعون وملئه.
فالمقاومة من هذه الجهة واجب، لأنّها في منطلقها الأساسي شهادة بالحق وشهادة على الباطل، وفي غايتها النهائية دفع الباطل، وإقامة العدل والحقّ، وبالرغم من أنّ الدافع الأساس هو دافع أخلاقي منبثق عن إحساس عال بالمسؤولية، فإنّه لدى المؤمنين كذلك استجابة للأمر الإلهي المتجه للفرد ليتجاوز بنفسه المعيقات العامّة ﴿فَقاتِل في سَبيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذينَ كَفَروا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكيلًا﴾ (النساء: 84)، فالخذلان، والقعود، والضعف العامّ، وعدم اتضاح الثمرة القريبة، ليس سببًا للكفّ عن القيام الفرديّ بالواجب، إلا أنّ الغاية الدنيوية من ذلك تبقى هدفًا للمقاومين، مجاهدي الباطل، ﴿وَأُخرى تُحِبّونَها نَصرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتحٌ قَريبٌ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ﴾ (الصف: 13)، وهو ما يستدعي الصدق والجدية وحسن البلاء والإعداد سعيًا إلى النصر والفتح، بيد أنّ تأخر النصر والفتح لا ينقض ضرورة المقاومة، كما لا ينقضها عدم القدرة على ضمان الفتح والنصر، لأنّ الواجب حاصل في فعل المقاومة نفسه وفي إتقانه في حدود الاستطاعة وليس في ضمان نتائجه، والهدف الأساس متحصّل بمجرّدها، أي بوصفها رفضًا للباطل.
وبهذا يتضح أنّ المقاومة واجب من الفرد إلى المجموع، وليس المقصود هنا الوجوب الشرعي فحسب، بقدر ما المقصود أنّ المقاومة في ذاتها هدف وغاية، لأجل استقامة الاجتماع الإنساني، ودفع الفساد عن العالم، والاستجابة للدوافع الأخلاقية المركوزة في الإنسان، وإلا غرق العالم في باطل ليس فيه من يعرف معروفًا ولا من يُنكر منكرًا، فأصل موقف المقاوم، أنّه موقف أخلاقي لا يأتي عليه فساد العالم بالإضعاف والتيئيس بل بالتحفيز والفاعلية ﴿وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ﴾ (الأنعام: 116)، فالمقاوم وهو ماضٍ في واجبه؛ مدرك تمامًا لغلبة الفساد على العالم، ومن ثمّ فلا تنقض كثرة الباطل أو قلة الأعوان تكليفه بالوقوف في وجه الفساد، ولا تضعف عزيمته إزاء ذلك.
وهذه المعاني شديدة الحضور والكثافة في الحالة الفلسطينية، مما يجعل المقاومة الفلسطينية ضرورة للعالم كلّه، لا للفلسطينيين، أو للعرب والمسلمين وحدهم، وهو ما سوف تتناوله حلقات قادمة إن شاء الله.