خلق الله عز وجل الإنسان وركب فيه الأعضاء والجوارح، وجعل لكل جارحة منها وظيفة تقوم بها؛ فالعين للنظر، والأذن للسمع، واللسان للكلام.. إلخ، ثم جعل على كل هذه الأعضاء قائدًا يأمرها وينهاها، ألا وهو القلب، والقلوب أصناف، منها الحي المخبت، ومنها القاسي الميت، ومنها المريض.
ومن عجيب شأن القلوب الثلاثة أن الشيطان لا يتعرض إلا للقلب المريض، أما القلب القاسي فهو ميت لا مطمع فيه، وأما القلب الحي فلا يستطيع قربه وإلا احترق، إنما يهاجم القلوب المريضة.
تعرَّفْ إلى قلبك
أولًا: القلب الحي:
وهو القلب الوجل، المليء بمحبة الله؛ فصار ينتفض ويضطرب إذا ذُكِر اللهُ، أو ذكِّرَ بالله، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال: 2).
هو الذي تطهر من أدران المعاصي فأصبح يرى الأشياء على حقيقتها بلا خداع أو زيف، مر أنس بن مالك بالسوق يوماً فنظر إلى امرأة، ثم دخل بعدها على عثمان بن عفان فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم عليَّ وفي عينيه أثر الزنى! فقال له أنس: أوحيًا بعد رسول؟! فقال: لا! ولكن برهان وفراسة، وصدق.
هو القلب المعتبر المتفكر الذي إذا رأى ظلمة حسبها ظلمة القبر، وإذا تلذذ بشيء تذكر الجنة، وإذا صرخ من ألم تذكر عذاب النار.
يقف عمر بن عبدالعزيز مع سليمان بن عبدالملك، فيسمع سليمانُ صوت الرعد فيجزع ويضع صدره على مقدمة الرحل، فيحرك عمر قلبه بقوله: هذا صوت رحمته، فكيف إذا سمعت صوت عذابه؟!
صاحب القلب الحيّ يجيد قراءة الرسائل الربانية إليه، فإذا وفقه الله لطاعة سأل نفسه: بأي خير أثابني الله هذه الطاعة، وإذا حرم من طاعة بادر بالبحث عن المعصية التي حرمته، والخطيئة التي منعته.
اعتل أبو زرعة الرازي، فعاده أبو حاتم الرازي وسأله عن سبب هذه العِلَّة، فقال: بِتُّ وأنا في عافية، فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجتُ ما أخطأ فيه سفيان الثوري، فلما أصبحتُ خرجتُ إلى الصلاة، وفي دربنا كلبٌ ما نبحني قطٌّ، ولا رأيته عدا على أحد، فعدا عليَّ وعقرني، وحُمِمت، فوقع في نفسي أن هذا لِما وضعتُ في نفسي، فأضربتُ عن ذلك الرأي.
وصاحب القلب الحيّ جعل الآخرة همه، فلا يحزن على فوات الدنيا، وإنما يبكي على فوات الطاعة، ويستشعر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهلُه وماله»؛ أي كأنما فقد أهله وضاع ماله، وهذا حاتم الأصم يستنكر على أهل زمانه تألمهم على ما فاتهم من لعاعة الدنيا وهم في غفلة عما ينفعهم في الآخرة فيقول: فاتتني صلاة الجماعة مرة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزَّاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا.
ثانيًا: القلب القاسي:
وهو القلب الذي خلا من محبة الله والإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، وهذه أشد عقوبات القلب، يقول مالك بن دينار: وما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
فقاسي القلب جعل إلهه هواه، فصار ألعوبة للشيطان يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، فعمرو بن الحمق قتل ذي النورين تقربًا لله، يقول: طعنت عثمان تسع طعنات، ثلاث منهن لله، وست لما كان في صدري عليه.
وقاسي القلب يفرح بالخطيئة إذا ظفر بها ويحزن إذا ضاعت منه، وهذا خسف بالقلب إلى أسفل سافلين، يقول ابن عطاء الله السكندري: من علامات موت القلب: عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات، وترك الندم على ما فعلته من الزلات.
القلب القاسي معطل الحواس، شعاره «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم»، فلا القرآن يزكّيه، ولا النظر في آيات الله يحييه، فحواسه معطلة عن كل خير وحق.
فآذانهم معطلة: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (فصلت: 5)، في آذانهم صمم وثقلٌ مانعٌ لهم عن سماع موعظة الحق، ولو أزيل هذا الانسداد لنفذ الكلام إلى قلوب غلفاء لا يدخل إليها نور الإيمان ولا يخرج منها ظلام الكفر والعصيان، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، ولذا قال الله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 23)، وأبصارهم معطلة، قال تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً {100} الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف).
فأعين قلوبهم كانت في غطاء عن فهم القرآن وتدبره، ثم سرى هذا الغطاء إلى أعينهم عما تضمنه الذكر من آيات الله وعجائب قدرته.
وألسنتهم عن الحق معطلة؛ فقاسي القلب خرسُه أحسن من كلامه، والجهل أبلغ من بيانه، لأنه يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار، ومثله مدْح ابن هانئ الأندلسي للخليفة المعز بقوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
ثالثًا: القلب المريض:
وهو القلب المتذبذب بين السلامة والقساوة، بين الحياة والموت، فهو قلب تمده مادتان: مادة إيمان، ومادة عصيان، فإن غلب عليه مرضه التحق بالقلب القاسي، وإن غلبت عليه صحته التحق بالقلب الحي.
وأمراض القلوب نوعان: مرض الشهوات؛ كشهوة حب الدنيا، وجمع المال، وهذا أول ما حذرنا منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: «فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُ».
وكشهوة حب الشهرة والرئاسة وتصَدُّر المجالس، وحب المدح والاستئثار بالكلام، ومحبة قيام الناس له، وكلها أمور كرهها السلف، كان عمر يقول: «المدح هو الذبح»، وفي الحديث الصحيح: «من أحبَّ أن يتمثَّلَ له النَّاسُ قيامًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ»، وقال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قال أبو داود: يعني حب الرئاسة.
ومنه أيضًا شهوة النساء، التي جبل عليها الرجال ويسعون في طلبها بالحرام أو الحلال، فهي الفتنة الأشد التي قال فيها نبينا صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».
النوع الثاني: مرض الشبهات، وهو أخطر النوعين على الإطلاق، لأنه يؤدي إلى الكفر، قال ابن القيم: «وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل».
فمن الشبهات: تدخل العقل فيما لا يطيق ولا يستوعب، ومثله ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: «يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَن خَلَقَ كَذا وكَذا؟ حتَّى يَقُولَ له: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟»، وكذا التنازع في القدر، والتشكيك في الأحكام الشرعية والحدود الربانية بأنها وحشية دموية، إلى غير ذلك من قضايا الشبهات التي تصيب القلب فتهلكه.
فهذه ثلاثة قلوب أمامك، فابحث عن قلبك بينها، ولا تتنازل أن تكون صاحب القلب الحي، فإن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، حتى وإن جاعت أو مرضت أو حبست الأبدان.