حادثة الإسراء والمعراج في شهر رجب تمر هذه السنة في أجواء غير اعتيادية؛ إذ تتزامن مع الشهر الرابع من حرب الإبادة على غزة بعد عملية «طوفان الأقصى» التي جاءت لتذكّر بأن جوهر القضية المركزية هو المسجد الأقصى، وأن الإسراء والمعراج رسالة للبشرية بأهمية العلاقة الوثيقة بين مكة والقدس.
وبهذه المناسبة، يجدر التذكير بتاريخ فلسطين والمسجد الأقصى، الذي يمكن تقسيمه، من باب تيسير الفهم والاستيعاب، إلى ثلاث مراحل:
أولاً: مرحلة أولى تمتد من نشأة المسجد الأقصى إلى العصر الروماني البيزنطي المسيحي.
ثانياً: مرحلة ثانية تمتد من العهد النبوي إلى عشرينيات القرن العشرين، بما يوافق حوالي ثلاثة عشر قرناً من الحكم الإسلامي المباشر لفلسطين.
ثالثاً: مرحلة ثالثة تمتد من الانتداب البريطاني إلى يومنا هذا، وهي المرحلة التي فقد فيها المسلمون سلطة الإشراف على مقدساتهم وأراضيهم في فلسطين، وسيطر فيها الكيان المحتل على مقدراتها ونكّل بأصحاب الأرض، ولعل حرب الإبادة على غزة خير شهيد.
العلاقة الوثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
في المرحلة الأولى، يعود بنا تاريخ هذه الأرض المباركة إلى تشييد المسجد الأقصى الذي بُني بعد الكعبة بأربعين سنة بحسب الرواية النبوية، وبغض النظر عن الاختلاف في الروايات حول من بنى هذا المسجد (آدم، الملائكة..)، فإن الثابت قدسية «الأقصى» وعلاقته الوثيقة بالمسجد الحرام.
وتأتي حادثة الإسراء والمعراج في رجب قبل الهجرة بحوالي سنتين لتأكيد هذا المعنى، يقول د. إبراهيم المقادمة، في مقال لـ«المجتمع»، في 20 ديسمبر 2023م: أرض فلسطين هي مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلها حكمة عظيمة ألا يخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البعثة خارج جزيرة العرب إلا إلى فلسطين، لقد كان من الممكن أن يعرج الله سبحانه وتعالى برسوله الكريم إلى السماء من مكة المكرمة مباشرة، ولكن شاء الله تعالى أن يكون هذا الإسراء إلى بيت المقدس، حتى يرتبط المسجد الأقصى وإلى الأبد بالمسجد الحرام؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1).
أرض مباركة
وباعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء الذي صلى بهم إماماً خلال هذه الزيارة لبيت المقدس، فهذا يعني أن الإسراء جاء تتويجاً لمسار النبوة في هذه الأرض التي استقر بها عدد من الأنبياء.
وأولهم النبي إبراهيم عليه السلام، الذي هاجر هو وزوجته حوالي عام 1900 ق.م بعد القطيعة مع قومه المشركين، من العراق إلى فلسطين أرض كنعان نسبة إلى السكان الذين استوطنوها قبل 3 آلاف سنة من ميلاد المسيح، ثم شعوب قادمة من آسيا الصغرى وبحر إيجة وتحديداً القبيلة الكريتية (بيليست) التي اندمجت مع الكنعانيين سكان البلاد الأصليين، وأطلق اسم فلسطين على جميع الأراضي الساحلية والداخلية التي كان يسكنها الكنعانيون.
علماً أن هذه الأرض المباركة كانت موطناً لمجموعة متنوعة من الحضارات والشعوب على مر العصور بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي وخيراتها، كما كانت هدفاً للغزوات ولأطماع قوى إقليمية احتلتها واستغلت ثرواتها ونكلت بسكانها.
أرض الميعاد!
وعلى ذكر النبي إبراهيم عليه السلام، تدّعي الرواية اليهودية أن التوراة تتضمن الوعد الإلهي للنبي إبراهيم بأن فلسطين هي أرض الميعاد لنسله إلى يوم القيامة، من الساميين من سلالة سام بن نوح عليه السلام، وهم شعب الله المختار الأحق بهذه الأرض، حسب زعمهم.
ويوجد اليوم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل بالضفة الغربية جنوب القدس، وفيه ضريح النبي إبراهيم وبعض سلالته مثل النبي إسحاق وزوجته، ومن سلالة إسحاق النبي يعقوب الذي يعرف أيضاً باسم إسرائيل، ومن سلالة يعقوب بنو إسرائيل الذين هم من سلالة إخوة يوسف عليه السلام.
وقد فصّل القرآن الكريم قصة يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام، وكيف أن يوسف أُخذ عبداً وبيع في مصر حيث مكَّنه الله تعالى فيها فأصبح عزيز مصر، ومن ثم طلب أباه يعقوب وأهله أن يلحقوا به، وقد أخذ يعقوب جميع أهله وأبنائه وأقام بمصر ولم يغادرها من بعد، وهكذا انتهت هجرة هؤلاء من فلسطين واستوطنوا مصر، لم تكمل ذرية يعقوب جيلاً واحداً في فلسطين، فلا صحة لدعوى اليهود بأن فلسطين أرضهم بدعوى إقامة يعقوب بها فترة من الزمن.
أما في زمن النبي موسى، فجاء الأمر لبني إسرائيل بالجهاد في فلسطين بعد أن تم إنقاذهم من فرعون وقومه، لكنهم رفضوا، يقول تعالى: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ {24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة)، وواضح من الآية الكريمة أن عقوبة الرفض تمثلت في حكم الله عليهم بتحريم دخول هذه الأرض والتيه مدة أربعين سنة.
وبعد وفاة موسى، دخل فتاه يوشع بن نون عليه السلام بقومه إلى أريحا، ودارت معركة بينهم وبين قوم من الكنعانيين، ففتحوا أريحا وسكنوها فترة من الزمن حتى مات يوشع بن نون عليه السلام.
أسطورة «العماليق» وتبرير ديني للإبادة الجماعية
وتفرق اليهود من بعده وأرسل الله تعالى لهم الأنبياء فكانوا يعصونهم، بل ويقاتلونهم، وحصل عليهم غضب الله تعالى وعقابه، فتمكن منهم الكنعانيون فيما بعد، وسلطوا عليهم ألواناً من العذاب والذل وأخذوا منهم المقدسات والأموال، لكن استطاع اليهود الانتقام من هؤلاء «العماليق»، كما جاء في التوراة حسب الرواية اليهودية، ففي كتاب صموئيل، الفصل (15)، تقول الآية (3): «والآن اذهب واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم، ولا تعفوا عنهم، بل اقتلوا على السواء الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً»، والتحريم هنا بمعنى الإبادة!
وتجدر الإشارة إلى أن اسطورة العماليق تم توظيفها في الحرب على غزة، حيث أفتى أحبار يهود بجواز قصف المستشفيات، كما قام نتنياهو بدعوة مبطنة لجنود الاحتلال لتنفيذ عملية إبادة جماعية، عبر ترديد مقتطفات من التوراة، تعطي شرعية لإبادة الفلسطينيين، قائلاً: «عليكم بتذكر ما فعله العماليق (عدو أسطوري لليهود مشكوك في وجوده تاريخياً) بـ«الإسرائيليين»، نحن نتذكر، ونحن نقاتل»،
مملكتا يهوذا وإسرائيل ولعنة العقد الثامن!
وبعد أن تمكن النبي داود من القضاء على جالوت الكنعاني، تولى الملك وتم تأسيس مملكة إسرائيل واتخذ أورشليم (القدس) عاصمة لمملكته، ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام، ولم تعمر مملكة داود، وسليمان أكثر من 80 عاماً، وبعد موت سليمان بن داود عليهما السلام عام 935 ق.م انقسمت المملكة إلى مملكتين؛ «يهوذا» في القدس، و«إسرائيل» في السامرة.
ونشبت الخلافات والحروب بين المملكتين، واستعانت كل منهما بملوك مصر أو آشور ضد الأخرى، والنتيجة حصول اضطرابات واحتلال مملكة يهوذا عام 920 ق.م لتصبح منذ ذلك الحين تابعة للدولة المصرية، واحتلال إسرائيل من طرف الآشوريين، ولم تعمر الدولة الثانية لليهود مملكة «الحشمونائيم» (نسبة إلى السلالة الحشمونية التي حكمت في يهودا وما حولها) أكثر من 80 سنة أيضاً، وبسبب غزوات الآشوريين والكلدانيين، اختفى الوجود السياسي لليهود في المنطقة؛ الأمر الذي يفسر ما يسمى القلق الوجودي لدى اليهود اليوم بسبب الخوف من لعنة العقد الثامن، والخوف من زوال الكيان المحتل في فلسطين اليوم بعد مرور 76 سنة على تأسيسه سنة 1948م.
الأمر الذي يفسر أيضاً تشبث الصهاينة بفكرة أرض الميعاد، وتبشير المتعصبين منهم بقرب هدم مسجد قبة الصخرة لإقامة «هيكل سليمان» الذي سرقه الغزاة، حسب زعمهم، والحال أن هذا المسجد يقوم على أساس الصخرة التي ترمز إلى معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء بعد مسراه إلى القدس.
يتبع..