إن من فضل الله عز وجل على المؤمنين أن جعل الآصرة بينهم المودة والمحبة، وجعل العلاقة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية علاقة أخوة، وليست مجرد علاقة إنسانية عابرة، فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وجعل حب الخير للغير كما هو حب الخير للنفس شرطاً لكمال إيمان الرجل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمِن أحدُكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»(1)، وحرم الله عز وجل أذى المسلم لأخيه المسلم باللفظ أو الفعل، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) (الأحزاب: 58)، فجعل أذى المسلم بهتاناً وإثماً مبيناً.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحاسدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا يبِع بعضكم على بيعِ بعض، وكونوا عبادَ الله إخواناً، المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يحقرُه، ولا يخذُله»(2)، وقد جمع الحديث معظم صور الأذى النفسي التي يمكن أن يتعرض لها إنسان من إنسان آخر من حسد وكراهية وظلم واستهانة وخذلان.
ويقول الله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262} قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة)، فهم مسلمون، أنفقوا في سبيل الله، لكن من محبطات ومبطلات هذا العمل الكبير أن يتبعه بالمن والأذى، ووصفه بالرياء، فهو عمل مردود على صاحبه.
ولأن أذية المسلم من أكبر أسباب سخط الله، فقد صعد عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً وقال: «يا معشرَ من أسلم بلسانِه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تؤذوا المسلِمين، ولا تعيّروهم، ولا تتَّبعوا عوراتِهم، فإنّه من تتبّع عورةَ أخيه المسلم تتبّع الله عورتَه، ومن تتبّع الله عورتَه يفضحه ولو في جوفِ رحله»(3).
ولا يوجد قانون وضعي بشري اهتم بصحة النفوس والمجتمعات الإنسانية كما اهتم الشارع الإسلامي بالمحافظة على مشاعر الآخرين والحفاظ على رابطة السلامة النفسية بين المؤمنين بعضهم بعضاً.
1- إفشاء السر:
يقول الله عز وجل: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 34)، والمسلم حين يلجأ لأخيه يسر له بأمر قد أهمه وأتعبه التماساً لإيجاد حل عنده، أو لمجرد الفضفضة التي تحدث بين المقربين ليتخلص من غم أصابه، فقد اصطفاه من بين كل إخوانه ليأتمنه على ما أصابه، فكيف يخون ذلك الاختيار بإفشاء سره والله أمره بالوفاء العهد؟!
وخيانة العهد بإفشاء السر أذى نفسي يمكن أن تترتب عليه الكثير من المشكلات الاجتماعية الكبيرة، هذا غير إهانته وكسره أمام الآخرين، وقد اختاره هو من بين الناس ثقة به وقرباً منه، والنبي صلى الله عليه وسلم شدد على تلك الأمانة فقال: «إذا حدث الرجل حديث ثم التفت، فهي أمانة»(4).
وأقل ما يقال عن المحدث بسر أخيه أنه خائن للأمانة، كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»؛ ولذلك عمل الصحابة الكرام على حفظ الأمانات، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن عمر بن الخطاب قال: حين تأيمت حفصة لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر؟ قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر؟ فصمت أبو بكر الصديق رضي الله فلم يرجع إليَّ شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي فخطبها مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ، إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي لقبلتها(5).
ومن أبشع صور إفشاء السر إفشاؤه بين الأزواج، فليس أقرب للزوج من زوجته، وليس أقرب منه إليها فتزول كافة الحدود ويفضي كل منهما للآخر بما لا يجوز مع بشر آخرين، وليس أعرف بأحدهما من الآخر بالآخر، فكيف تستقيم الحياة حين يضطر طرف للتحفظ أمام الآخر خوفاً على نفسه من إفشاء سره؟! فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ثم يفشي سرها»(6).
2- الوعد الكاذب:
ومن مظاهر أذية المسلم الوعد الكاذب، خاصة إذا كان هذا الوعد في مسألة تخص حل مشكلة ما تتعلق به، فعدم الوفاء بالوعد هنا قد يضعه في مشكلة مضاعفة ويعقد الأمور فتصعب على الحل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»(7)، فكيف يقبل المسلم بأن يحمل صفة من صفات النفاق يتحرك بها بين المسلمين؟! وبالطبع هذا في حال تعمد خلف الوعد، فالإنسان قد يعد ويكون صادقاً ثم لا يساعده القدر على إنفاذ وعده، كأن يعد مديناً بسداد دينه، ثم لا يستطيع، وقد يعد الزوج زوجته بهدية أو بنزهة أو حتى بشراء ثوب، ثم يعجز عن الوفاء بوعده، فهذا لا يدخل في صفة النفاق.
والوفاء بالعهد والوعد صفة محمودة جعلها الله عز وجل من صفات النبوة، فيقول تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) (مريم: 54)، ويقول تعالى واصفاً إبراهيم عليه السلام: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)، ويقول تعالى مبيناً صفات المؤمنين الصادقين: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177)، فبدأ الله تعالى بذكر الموفون بالعهد كصفة للمؤمنين.
والإسلام بني على الأخلاق الطيبة الطاهرة، والبعد عن كل ما يوغر الصدور بين المؤمنين، والوفاء بالعهد صفة لازمة للمسلم حتى مع الكافرين، وفي صلح الحديبية يقول ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أسيدِ بْنِ جَارِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي لُؤَي، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ فَقَدِمَا رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ بِكِتَابِ الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَس،ِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، إنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا قَدْ عَلِمْت، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ وَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِك»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَرُدُّنِي إلى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي؟ قَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، انْطَلِقْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»(8).
وها هو رمضان يقبل بفرصة كبيرة للتطهر والتوبة واستعادة أخلاقيات الإسلام الحنيف إلى النفوس المسلمة ليعود للمجتمع المسلم سلامه، لنتخلص قبل رمضان مما بها من دنس خيانة المسلم بإفشاء سره، وخيانة عهده ووعده وكافة مظاهر الأذى النفسي فضلاً عن البدني ليعود المسلمون إخواناً كما أراد رب العزة لعباده المؤمنين.
_____________________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الترمذي.
(4) رواه الترمذي.
(5) رواه البخاري.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه البخاري.
(8) الروض الأنف (4/ 57).