منذ الإعلان رسمياً عن إلغائها عام 1924م، تحوّل هدف استعادة الخلافة المطلب الرئيس للعديد من الدعوات والحركات والجماعات، وطغى على اهتمام المفكرين والمجددين والعاملين في حقل المشروع الإسلامي، الذين رأوا في سقوط الخلافة خسارة كبيرة، وانتكاسة خطيرة، وفقداناً للتمثيل والتعبير الأهم عن وحدة الأمة وهويتها الثقافية، رغم ما كانت تعانيه من ضعف وتفكك وتبدّل في الأسس التي قامت عليها الخلافة الأولى من الشورى وحق الأمة في اختيار من يحكمها.
شكّلت فكرة إعادة الخلافة نقطة جذب وعامل إلهام للعديد من الحركات الإسلامية والمشاريع الفكرية، واستمرت المحاولات والجهود لتحقيق ذلك على مدار قرن كامل من الزمن ولم تتوقف، وتعتبر حركة الخلافة المعروفة أيضاً باسم الحركة الإسلامية الهندية (1919 – 1924م) واحدة من أقدم الحركات الإسلامية التي دعت لاستعادة الخلافة، فيما كانت إعادة الخلافة من أهم أهداف جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست عام 1928م، وأكد مؤسسها «أن الإخوان يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم».
وقد انبثق عن جماعة الإخوان أو تأثر بمدرستها العديد من الحركات والمجموعات الإسلامية التي وضعت هي الأخرى استعادة الخلافة على رأس قائمة أهدافها وأولوياتها، كالجماعة الإسلامية في باكستان التي تأسست عام 1941م، وحزب التحرير الإسلامي الذي نشأ عام 1953م، وكانت عودة الخلافة فكرته المركزية.
الحركات الإسلامية نجحت في الحفاظ على الهوية والوعي بشمولية الإسلام
وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، طرأ تطوّر إشكالي تمثل في تسرّع بعض المجموعات ذات التوجّه الإسلامي بإعلان قيام إمارة أو خلافة في بقعة ما ومطالبة المسلمين في العالم بمبايعة الأمير أو الخليفة، حصل ذلك عام 1996م حين أعلنت حركة «طالبان» إمارة أفغانستان الإسلامية ومبايعة الملا محمد عمر أميراً للمؤمنين، وطالبت عموم المسلمين بمبايعته خليفة على السمع والطاعة.
وتكرر الأمر عام 2014م حين قفز «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) قفزة في الهواء، وأعلن قيام الخلافة الإسلامية وتنصيب زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين في كل مكان.
وعبّرت هذه الإعلانات الساذجة والمتعجّلة وغير الواقعية عن قصور الفهم، وغياب النضج الفكري والسياسي، وضعف إدراك الواقع السياسي بمعطياته وتعقيداته، ومنيت تلك الخطوات المتسرّعة بفشل ذريع، ووصلت إلى طريق مسدود.
عقبات وتحديات
ويُلاحظ أن جهود إحياء الخلافة واجهت عقبات وتحديات كأداء، وضعت سداً منيعاً أمام تحقيق نجاح عملي على هذا الصعيد، ومن أهم تلك العقبات:
– حالة التحفّز لدى القوى الدولية لإفشال أي محاولات لإنجاز وحدة عربية أو إسلامية، ولإجهاض أي دعوات لإحياء الخلافة، نتيجة الإرث التاريخي السلبي والمخاوف والهواجس من تبعات ذلك.
– خضوع معظم الدول العربية والإسلامية للاستعمار، ونجاح المخططات الدولية في تكريس حالة الانقسام والتجزئة وتفتيت الأمة إلى دول وكيانات ضعيفة ومتناحرة، مسلوبة الإرادة وتابعة لنفوذ القوى المهيمنة.
– سيطرة الاستبداد السياسي، واحتكار السلطة، وهيمنة العلمانية وفلسفتها في الحكم على الكثير من الأقطار العربية.
– تكريس الواقع القُطري والدولة الوطنية، على حساب الأطر السياسية الجامعة.
– استهداف الجماعات والحركات الإسلامية التي تحمل المشروع الإسلامي وتدعو لإحياء الخلافة، والعمل على إضعافها وإقصائها وقطع الطريق على وصولها إلى مواقع التأثير والتوجيه في دولها ومجتمعاتها.
وفي مواجهة الواقع الصعب والتحديات الكبيرة التي واجهت جهود إحياء الخلافة، طرأ تطوّر مهم على وعي المفكرين الإسلاميين والقائمين على أمر الجماعات والحركات الإسلامية، تمثّل في إدراكهم لأهمية ملء الفراغ وسدّ الفجوة الناجمة عن غياب الخلافة في تعبيرها عن الهوية الثقافية والوحدة الإسلامية.
فقد باتوا يُعنون بتحقيق هدفين أساسيين؛ الأول: إبراز الهوية الثقافية الإسلامية للأمة، من خلال التركيز في الأدبيات والمناهج والبرامج والخطاب السياسي والدعوي على هدف استئناف الحياة الإسلامية وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، والثاني: تقديم نموذج وصيغ عملية تُعبّر جزئياً عن وحدة الأمة وعن رفض الخضوع للواقع القُطري ولمنطق التجزئة والتفتيت.
نجاح وفشل!
وفي تقييم مدى نجاح الحركات والمشاريع الإسلامية في تحقيق الهدفين، يُلاحظ أنها حققت نجاحاً جيداً في الحفاظ على الهوية الإسلامية، ونشر الوعي بشمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة، وتشكيل الرأي العام المطالب باستئناف الحياة الإسلامية وتطبيق الشريعة، فيما كان الأمر مغايراً فيما يتعلق بهدف تقديم النموذج والتعبير عن وحدة الأمة وتجاوز قيود الجغرافيا وسطوة الواقع القُطري.
.. ولكنها فشلت في تحقيق حد أدنى من الوحدة أو التنسيق بين جهودها
فعلى صعيد التجربة العملية، يُلاحظ أن الحركات الإسلامية العاملة على توحيد الأمة واستعادة الخلافة فشلت في تحقيق حد أدنى من الوحدة أو التنسيق بين جهودها.
وعلى صعيد الحركة الإسلامية الواحدة، وجدت نفسها مع مرور الزمن خاضعة لضغط الواقع القُطري واستحقاقات الدولة الوطنية، ولم تستطع في معظم الأحيان الحفاظ على أكثر من وحدة شكلية لأجسامها الممتدة جغرافياً على دول متعددة تتباين ظروفها وأوضاعها السياسية، ولم يعد ممكناً تشكيل جسم موحد بقيادة مركزية، وعوضاً عن ذلك لجأت لإقامة صيغ تنسيقية تحافظ على استقلالية كل تشكيل محلي من تشكيلاتها وتراعي خصوصيته الوطنية.
وفي ضوء ما آل إليه الواقع العربي والإسلامي من انقسام وتجزئة وتكريس لواقع الدولة القُطرية أو الوطنية، وفي ظل ما واجهته تجارب الحركات الإسلامية من صعوبات ألجأتها لاعتماد صيغ التنسيق عوضاً عن الوحدة الكاملة والقيادة المركزية، وجدت تلك الحركات نفسها مضطرة لإعادة النظر في طروحاتها السابقة ولاعتماد مقاربات أكثر مرونة وواقعية.
وبات الحديث عن الخلافة كمظلة سياسية ومرجعية دينية تحظى برمزية التعبير عن وحدة الأمة وعن هويتها الثقافية، من خلال صيغ وأطر تنسيقية مرنة؛ أمراً مقبولاً لدى الكثير منها.
وقد تنبّه مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا مبكراً للصعوبات العملية التي تعترض طريق إحياء الخلافة، وتبنّى فهماً مرناً ومتدرّجاً لتحقيق ذلك، وأكد في «رسالة المؤتمر الخامس» عام 1938م أن الأمر «يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بدّ منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بدّ أن تسبقها خطوات؛ لا بدّ من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد».
إن التمسك بأشواق الأمة وتوقها لإحياء الخلافة عنواناً للوحدة والهوية الإسلامية من خلال تطبيقات واقعية، يظل أمراً مهماً، رغم إدراك صعوبة تحقيق ذلك دون قيام دول شورية ديمقراطية تُعبّر عن إرادة مجتمعاتها وشعوبها التي تتوق للوحدة والحرية واستعادة الدور والمكانة الحضارية.