تدعي الأكاديمية «الإسرائيلية» لاتسروس يافيه أن اتخاذ القدس قبلة في صلاة المسلمين «ما من شك أنها جاءت تحت تأثير التقاليد اليهودية والمسيحية في شبه الجزيرة العربية في تلك الحقبة»، وتدعي أن هذا الاتجاه بدأ بعد الهجرة «لكي تجذب دعوة محمد الجزيرة العربية للإسلام».
وهذا الكلام فيه مغالطات من عدة جهات، فالتقاليد المسيحية على سبيل المثال لم تتخذ القدس قبلة في الصلاة في تلك الحقبة، وإنما كانت دائماً تتجه إلى الشرق البعيد عن القدس (التي تقع شمال غرب الحجاز)، حيث تتجه الكنائس منذ القرن الثاني الميلادي باتجاه الشرق اعتماداً على آية إنجيل متى: «كما أن البرق يومض من الشرق فيضيء في الغرب، هكذا تكون عودة ابن الإنسان» (متى 27:24).
أما الاتجاه إلى القدس في العهد الإسلامي الأول فلم يبدأ بعد الهجرة، وإنما بدأ مع اللحظة الأولى لفرضية الصلاة، وهي كما يبدو من نص القرآن المبكر جداً؛ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (المزمل)، وكما ينص ابن إسحق، قد بدأت منذ السنة الأولى للبعثة النبوية، ويبين مسند أحمد بن حنبل أن اتجاه الصلاة كان منذ البداية إلى القدس حتى قبل أن يكون هناك أي علاقات مع اليهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ابن عباس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة قِبَلَ بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صُرِفَ إلى الكعبة».
وذلك يعني أن اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته منذ بداية دعوته قبل أن يكون له أي علاقة باليهود أو النصارى في الجزيرة العربية كان إلى القدس، والواقع أن هذا الأمر لو كان متعلقاً باختيارات النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته الشخصية لكان الأولى به أن يصلي في مكة المكرمة باتجاه الكعبة فقط، وذلك لأن العرب المشركين كانوا في ذلك الوقت يعظمون الكعبة ولا يجعلونها خلف ظهورهم أبداً، وهو ما يظهر في رواية ابن إسحق عن البراء بن معرور، الذي جاء من يثرب قبل الهجرة وأسلم في مكة مع أصحاب بيعة العقبة الأولى، ثم استصعب أن يؤمر بالصلاة باتجاه بيت المقدس وأن يجعل الكعبة بالمقابل وراء ظهره (لأن يثرب/ المدينة تقع بين مكة والقدس)، فقرر وحده الصلاة باتجاه الكعبة، وهو ما منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم حين لقيه في العام التالي وسأله البراء عن ذلك فقال: «قد كنتَ على قبلة، لو صبرتَ عليها»، وهذه إشارة واضحة من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الصلاة إلى القدس كانت مؤقتةً ولها مقصد أساسي، وهو في الحقيقة بناء علاقة عرب شبه الجزيرة العربية بالقدس لأنهم كانوا يعرفون قيمة الكعبة، ولكنهم لم يكونوا قبل الإسلام يعرفون للقدس قيمة تذكر، فجاء الإسلام منذ البداية ليبني هذه العلاقة بين الطرفين ويربطها برابط الصلاة القوي.
فلما اكتمل هذا الرابط بالصلاة إلى القبلة في المدينة بعد الهجرة بـ 16 شهراً تقريباً، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء، وعلى عكس ما تذكر بعض الكتب من آراء متهافتة تزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء كراهية للقدس بسبب طبيعة علاقته بيهود المدينة، فإن رواية البراء بن معرور تبين بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحقيقة يتوقع تغيير القبلة لتصبح باتجاه مكة بعد أن تم بناء الرابط المطلوب مع القدس لدى المسلمين.
إن ادعاء أن الاتجاه إلى القدس في الصلاة أولاً قبل مكة كان بتأثير من الوجود اليهودي في الجزيرة العربية هو ادعاءٌ مغلوط ومتهافت، لأن الأصل والمنطق العقلي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترض به أن يصلي في مكة المكرمة باتجاه الكعبة وليس باتجاه القدس، وذلك لأن العرب في مكة كانوا يقدسون الكعبة، ولكنه صلى باتجاه القدس.
فلما هاجر إلى المدينة المنورة التي كان فيها جالية يهودية معتبرة تصلي باتجاه القدس إذا به يصلي باتجاه الكعبة، وكان المنطق العقلي البحت يقتضي أن يحاول التقرب من مشركي قريش في مكة ويتألف قلوبهم فيصلي إلى قبلتهم، وفي المقابل يتألف قلوب اليهود في المدينة ويصلي إلى قبلتهم، أي أنه لو كان يحاول استمالة أحد الفريقين أو كسب تعاطفهم لكان استقبل الكعبة وهو بمكة، واستقبل القدس وهو بالمدينة، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، وهذا يدل على أن مرجعية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن لا اليهود ولا النصارى ولا المشركين، وإنما كانت مرجعيته مختلفةً عنهم جميعاً، وهذا يسقط الادعاء من أساسه.