كُفّنتِ في ليل الزفاف بثوبه ودُفِنت عند تبلّج الإصباح
شُيّعت من هلع بعبرة ضاحكٍ في كل ناحية، وسكرة صاح
ضجّت عليك منابرٌ ومآذنٌ وبكت عليك ممالكٌ ونواح
الهندُ والهةٌ، ومصر حزينةٌ تبكي عليك بمدمعٍ سحّاح
والشام تسأل، والعراق، وفارسٌ أمحا من الأرض الخلافةَ ماحي؟
وأتت لك الجُمع الجلائلُ مأتما فقعدن فيه مقاعد الأنواح
كلمات ممزوجة بدموع وبكاء وعويل سطرها أمير الشعراء أحمد شوقي في يوم لم تشهد مثله البشرية منذ أن فاضت روح نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يوم السابع والعشرين من رجب 1342هـ/ الثالث من مارس 1924م، وقعت أكبر جريمة لا أقول فقط في حق المسلمين، بل في حق البشرية جمعاء، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا من خلال عملائها المتأسلمين من إسقاط آخر معقل لدولة الخلافة الإسلامية التي كان مقرها إسلامبول (إسطنبول)، وبسقوطها سقطت آخر دولة خلافة للمسلمين، ولم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم.
ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإسلامبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، ووضع حجر الأساس لإقامة الجـمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد، معلنة بذلك بدء أسوأ حقبة ستعيشها الأمة الإسلامية خاصة والبشرية جمعاء لاحقاً، من ظلم وجحود وتيه، فبسقوط دولة الخلافة الإسلامية سقطت مفاهيم دولة العدل والمبادئ والقيم الرفيعة، لتحل محلها دولة الظلم والمصالح والأهواء والماديات.
لقد نجح الاستعمار بنوعيه الشرقي والغربي في تفتيت الجسد الواحد وحوله إلى دول ودويلات، لكل منها حاكم وعلم ونشيد وحدود جغرافية مصطنعة، وغزاها بأفكار القومية والوطنية، فأصبح ولاء الأمة إما لأشخاص الزعماء والقادة ورجال الحكم والسياسة، أو للأفكار والمذاهب والفلسفات الواردة، وبذلك حول الشعوب الإسلامية عن الولاء الوحيد الذي ينبغي أن تخضع له دون سواه وهو الولاء لله الواحد القهار، واتباع الرسول ﷺ، ولكي تحيد عن هدفها الأساسي المتضمن للآية: (كْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)؛ وهو السعي جاهدة لتجعل كلمة الله تعالى وحدها هي العليا.
فأصبحت ثروات الأمة نهباً لكل مستعمر ولكل خائن للأمة، وانتشر الفقر والمجاعات، وسلبت الأمة من ثرواتها، وفقدت ريادتها وسقطت سقوطاً مدوياً، حتى صار دم المسلم أهون الدماء؛ وبذلك فقد العالم صمام أمانه ومنظومة العدل وانحرف عن الفطرة السوية وتحول إلى عالم يحكم بقانون الغاب، لم تحافظ دولة الخلافة الإسلامية على حقوق المسلمين فقط، بل حافظت كذلك على حقوق غير المسلمين، فكانت مظلة الرحمة التي تستظل بها البشرية.
لماذا وجب الحديث عن ذكرى سقوط الخلافة الإسلامية؟!
إن الحديث عن ذكرى سقوط الخلافة ليس من باب الحديث عن ذكرى دينية بالمعنى الشرعي، بالرغم من أنها من أولى واجبات الدين؛ ألا وهو وجوب إقامة الدولة الإسلامية للتمكين لشرع الله وتطبيقه في مناحي الحياة، ولا هي ذكرى احتفالية بالمعنى الدارج يرجى من ورائها أن نتجرع كأس الألم والحسرة والبكاء على اللبن المسكوب! لكنها ذكرى وجب الحديث عنها وتذكير المسلمين بها كونها حدثاً جللاً تغير به وجه العالم، فماذا يعني هذا الحدث للفرد المسلم، والأمَّة بأجمعها؟ وكيف ننظر إليه، وإلى ما كان قبله، وما صرنا إليه بعده؟ وما الواجب علينا في تلك اللحظة الفارقة في تاريخ أمة مريضة يسودها الشتات ويعتليها الغبار؟!
أولاً: إشاعة الحديث عن الخلافة الإسلامية كنظام حكم ودولة بين السواد الأعظم من المسلمين، وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه أبو العباس القلقشندي بـ«حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، التي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع»، تلك القيم الكبرى التي افتُقدت في عصرنا هذا واختفت بسقوط دولة الخلافة.
ثانياً: إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها وانتشار النعرات القومية والحزبية.
ثالثاً: إفاقة وتحريك الغافلين القاعدين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة عزه ومجده.
رابعاً: ربط الأجيال المتعاقبة بماضيها التليد وتاريخها المجيد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يقتصر فقط على عصر الصحابة وما تبعه، بل لنا في العصر الحديث أيضاً ماض يفتخر به.
خامساً: إزاحة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ بين صفوف المتعلمين والدارسين، وطلبة العلم في المساجد، وهو تاريخ السلاطين الذين أقاموا دولة عاشت قروناً من الزمن، وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عدداً وأحسنها تدريباً وتسليحاً وتنظيماً ومهارة.
سادساً: العمل على توعية المسلمين بطبيعة المرحلة وحقيقة الصراع، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية المنضبطة للأمور؛ لا نعرات الديمقراطية، والعلمانية، والليبرالية.. وغيرها.
سابعاً: القراءة العميقة والاستفادة من الماضي، واستلهام السنن الإلهية في النصر والتمكين وضبط بوصلة الفعل عليها، فمن لزمها مُكن له، ومن أهملها سُحق واسُتبدل به، واستخلاص الدروس والعبر مما يعينه على استشراف المستقبل بالرؤية الواضحة والتخطيط المتزن، ليكون بذلك قد حقق الغاية التي من أجلها خُلق؛ وهي الاستخلاف في الأرض لينال بذلك أعظم تكريم، تحقيقاً لوعد الله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
إدراك اللحظة الفارقة
إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو مراد الله تعالى، وضع الله له شروطاً ومقدمات وسنناً لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات منضبطة ببوصلة السنن الكونية؛ استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهوناً بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئاً منها، أو أخلّت بها فقدت عوامل وسبل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف.
وبديلاً عن التخطيط والتدبير، فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردود فعل عاطفية، في حين أن الأعداء قد خططوا ودبروا على مدار عشرات السنين لإسقاطها حتى تمكنوا منها، ولم نعِ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعى أعداء الأمة وحرصوا على تفكيك وحدة المسلمين لضمان استمرار الضعف وسهولة الافتراس، فكان من نتيجة ذلك أن تم تمزيق جسد الأمَّة الواحدة، كيلا تقوم للأمة قائمة، وعلت الوطنيات والقوميات والعنصريات المنتنة على رابطة الإسلام.
فلا خير فينا إن لم نبذل كل غال ونفيس في سبيل قيام دولة الخلافة؛ دولة العدل التي يُعز فيها المسلم ويقام فيها الشرع ويصان في العِرض، وتنشر الهدى في العالم كله، وتُكرِّم الإنسان، يحيا بها الفرد مطمئناً، دولة تحرك جيوشاً لحماية دم مسلم واحد! دولة تحافظ وتصون ثروات وخيرات الأمة وأهلها، دولة لا يظلم فيها أحد مهما كان دينه أو لونه أو لغته.
إن الدعوة إلى وحدة الأمة ليست مشروعاً عاطفياً أو أُمنِيَة بعيدة المنال، ضعيفة الأثر، فحريٌّ بالمسلمين جميعاً، على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، أن يقفوا عند هذه الذكرى ليحيوها لا ليبكوها، فتصبح عودة الخلافة غاية يبذل من أجلها كل غال ونفيس، فلا عزة للأمة إلا بالرجوع إلى أصولها العقدية وجذورها التاريخية، وتعض عليها بالنواجذ، ونختم بقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنَّا كُنَّا أذلَّ قومٍ فأعزَّنا الله بالإسلام، فمَهما ابتَغينا العِزة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله».