لقد فُرِضت الصلاة قبل الهجرة، في رحلة الإسراء والمعراج، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتجه في صلاته إلى المسجد الأقصى كقبلة له في الصلاة، وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ربه، فكان في مكة يقف في صلاته متجهاً نحو المسجد الأقصى جاعلاً الكعبة المشرفة أمامه بحيث يجمع بين رغبته في الاتجاه إلى الكعبة وأمر الله له بالاتجاه إلى المسجد الأقصى.
ثم كانت هجرته إلى المدينة المنورة، ولم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين القبلتين في آن واحد كما كان يفعل في مكة، فتوجه بالكلية إلى بيت المقدس طاعة لأمر ربه حتى وإن خالف ذلك ما في نفسه.
وهنا بدأت مشاعر الحنين تتدفق في قلب النبي صلى الله عليه وسلم حيث أراد أن يتجه إلى الكعبة المشرفة وهي قبلة الآباء والأجداد، فكان يرفع رأسه ويقلب وجهه في السماء، يرجو أن يأتيه الأمر الإلهي بالتوجه إلى الكعبة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحالة، حيث قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 144).
وفي ليلة النصف من شعبان في السنة الثانية من الهجرة بعد أن قضى النبي صلى الله عليه وسلم 16 شهراً يصلي نحو المسجد الأقصى أمره الله تعالى أن يتوجه إلى الكعبة المشرفة في الصلاة، وقد استجاب النبي صلى الله عليه وسلم للأمر في منتصف صلاة الظهر أو العصر على حسب اختلاف الروايات.
والناظر في حادث تحويل القبلة يجد ارتباطاً وثيقاً بينه وبين مفهوم الإسلام، ويظهر هذا في معاني الطاعة والاستسلام والخضوع لله تبارك وتعالى؛ فالإسلام معناه الاستسلام والطاعة والخضوع لله رب العالمين، وقد تجلت الطاعة في أسمى صورها في تحويل القبلة، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرغب في التوجه إلى الكعبة المشرفة منذ أن فرضت عليه الصلاة، لكن الله تعالى أمره أن يتجه إلى المسجد الأقصى، فما كان منه إلا الطاعة والاستسلام لله تعالى، ولما أمره الله أن يتجه إلى الكعبة استدار في منتصف الصلاة ليجسد الطاعة الفورية لله تعالى.
فعندما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إرضاء ربه وطاعة أمره جاءته البشرى بتحقيق رغبته، فمن حرص على إرضاء الله سبحانه رضي الله عنه وأرضاه وحقق له غايته ومبتغاه.
ولم تكن الطاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، بل بادر المسلمون جميعاً إليها، حيث روى البخاري ومسلم «أن رجلاً من بني سلمة صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرض الذي تحولت فيه القبلة، ودخل على قومه في مسجدهم وهم يصلون، وقف على باب المسجد وقال: أشهد الله وأشهدكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بتحويل القبلة إلى الكعبة، وقد صليت معه، فتحولوا وهم في صلاتهم»، وهنا نرى قمة الطاعة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم دون جدال أو تباطؤ أو معارضة.
أهمية الطاعة لله ورسوله
1- إن الطاعة لله تعالى ورسوله من أهم ما أُمِر به المسلم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ (النساء: 59)، وقال أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب: 36).
2- تدل الطاعة لله ورسوله على إيمان صاحبها، حيث قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: 1).
3- الطاعة لله ورسوله تستجلب رحمة الله، حيث قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران: 132).
4- الطاعة لله ورسوله تحقق لصاحبها الفوز، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (النور: 52).
5- الطاعة لله ورسوله تبلغ بالمسلم أعلى الجنان، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء: 69)، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
موقف غير المؤمنين من تحويل القبلة
إذا كانت الطاعة لله ورسوله هي شعار المؤمنين البارز في موضوع تحويل القبلة، فإن غير المؤمنين قد صنعوا من هذا الحدث وسيلة لبث سمومهم وإظهار حقدهم على الإسلام والمسلمين، فاليهود قالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، والمشركون قالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وأما المنافقون قالوا: ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت القبلة الأولى حقاً فقد تركها، وإن كانت القبلة الثانية هي الحق فقد كان على باطل.
وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، لكن الله تعالى طمأن قلب كل من أطاعه، وبين أن هذه كلها أقوال سفيهة من قوم سفهاء، فأنزل قوله: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 142)، فمن أطاع الله تعالى فهو على الصراط المستقيم، ولن يضيع الحق سبحانه وتعالى عبادة من عبده وطاعة من أطاعه، إنما هو اختبار للناس، حيث قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أمر عباده المؤمنين أن يتميزوا في طاعتهم بتحقيق ما أمروا به دون الإصغاء إلى ما يقوله السفهاء؛ فإنه أمرهم كذلك أن يكونوا في هذه الطاعة يداً واحدة وعلى قلب واحد، فقد تمت إرادة العليم الحكيم وتحولت القبلة إلى الكعبة لتكون وجهة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ووجهة المؤمنين في صلاتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 144)؛ أي توجهوا إلى قبلة واحدة مهما تباعدت الأماكن، فإن النفوس والقلوب تتلاقى في مكان واحد، فلا يليق بالأمة أن تتفرق وربها واحد ورسولها واحد وكتابها واحد وقبلتها واحدة؛ ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
فلنجعل حياتنا كلها طاعة لله ورسوله، ولنجعل شعارنا أن نقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، ولنطمئن إلى أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.