ماذا ستكون البوسنة لولا العثمانيين؟ وكيف سيكون شكل وانتشار الإمبراطورية العثمانية بدون مسلمي البوسنة؟
الإجابة عن ذلك مفتاح لفهم العلاقة الوطيدة التي ربطت بينهما.
يختلف المؤرّخون وفقاً لأيديولوجيّاتهم وحقبهم التّاريخيّة في وصف طبيعة الحياة في البوسنة العثمانيّة، منهم من يعتبرها أزهى العصور على الإطلاق، ومنهم من يراها فترة انتعاش للعلوم والفنون والعادات القادمة من الشّرق، وبالمقابل ركود للتّأثير الأوروبي الغربي الذي تفوّق تدريجيّاً على أراضيه وبالتّالي أصبحت البوسنة متخلّفة بالنّسبة لدول البلقان الأخرى الكاثوليكية، ومنهم من يربط استقرار البوسنة ورخاء الحياة فيها بقوة وصعود الإمبراطوريّة العثمانية، ومن ثمّ تراجع وضع مسلمي البوسنة (البُشناق) بتدهور وضع العثمانيين وانسحاب جيوشهم أمام الهجمات على الحدود الغربيّة والشّماليّة، كلّ هذه النّظريّات لا تخلو من الصّحّة وتعكس جزءاً من واقع البوسنة والهرسك أيّام العثمانيين.
إقبال على الإسلام
يدين مسلمو البوسنة «البشناق» بالفضل للعثمانيّين في اعتناق الإسلام، هناك مصادر تاريخيّة تحدّثت عن وجود للإسلام في مناطق البوسنة بفضل حملات حربيّة سابقة، وكذلك بفضل التّجارة، لكن الثابت أن التّحوّل الكبير للإسلام كان خلال العهد العثماني، رغم أنّ الدّولة العثمانية لم تكن تفرض اعتناق الإسلام بالقوّة.
العديد من الباحثين والمؤرّخين وضع فرضيّات لتفسير إقبال أهل البوسنة والهرسك بشكل طوعي، وبأعداد كبيرة على اعتناق الإسلام، وترتكز أغلبها على الوضع الجغرافي المتميّز للبوسنة كمنطقة جبليّة غزيرة الغابات، نائية نسبيًا، وفاصلة بين الإمبراطوريات والحضارات والطّوائف، المتمثّلة بالحضارة الشّرقية الأرثوذكسية، والغربية اللاتينية الكاثوليكية.
موقع البوسنة المتوسّط جعلها نهبًا لمحاولات التّوسّع ومدّ السّيطرة والنّفوذ، والصّراعات المستمرّة على أراضيها على حساب حياة السّكّان الذين عاش أغلبهم حياة زراعيّة رعويّة بسيطة، ولم تتح لهم إمكانيّات بناء مدن مزدهرة تصبح مركزًا حضاريًّا مهمًّا يسمح بتطوّر حياتهم، من هنا التّحوّلات التي طرأت بعد وصول العثمانيين للمنطقة، التي جعلت سكّان البوسنة المسلمين «البشناق» ينظرون إليهم كفاتحين محرّرين وليس كغزاة محتلّين.
دين وحضارة
تحدّث المؤرخ البوسني محمد فيليبوفيتش عن خصوصية وضع أهل البوسنة بالنّسبة لنظرتهم للسّلطة العثمانية وقبولهم بها، قائلًا: «العثمانيّون لمّا قدموا إلى المنطقة لم يجلبوا معهم دينًا جديدًا فحسب، بل حضارة وثقافة جديدتين، هم بدؤوا بإعمار المدن، ومع تطوّر الصّناعات والحرف والتّجارة أثناء الوجود العثماني بدأ إنشاء المدارس والمكتبات والحمّامات العامة، لذا طبقة كبيرة من المجتمع البوسني التي انخرطت في الاقتصاد الجديد والحياة العامّة الجديدة انخرطت أيضًا تدريجيّا في الدّين الجديدة.
وإضافة لتأثير الكنيسة البوسنية التي سادت في البوسنة قبل العثمانيين، وكانت لها معتقدات سهّلت قبول معتنقيها للإسلام، كان تأثير التطوّر الحضاري الذي لمسه السّكّان المحلّيّون وشعروا بأفضليّته على الوضع القائم قبل ذلك قد أعطاهم ميلًا لتقبّل الدّين الجديد الذي يقف وراء تلك الحضارة.
تحوّلت البوسنة في زمن العثمانيّين لولاية حافظت على اسمها السّابق، وتمتّعت بنوع من الحكم الذّاتي، وصارت بعض مدنها مثل سراييفو وفيشيغراد حاضرة ومركزاً تجاريّاً مزدهراً في منطقة البلقان، وهذا ما جعل حتى بعض سكّان البوسنة من أتباع الكاثوليكية والأرثوذكسية يعتنقون الإسلام ليتمكّنوا من الارتقاء في السّلّم الاجتماعي ويحصلوا على امتيازات من الوضع الجديد.
هذا التأثير الحضاري للدّولة العثمانية ربّما كان من أقوى العوامل التي رسّخت من نفوذ الإسلام داخل البوسنة، وجعل من اللّغات التركية والفارسية والعربية لغات أساسيّة في الثّقافة والتّأليف وطلب العلم، ما زلنا نلمح آثارها في الوثائق والمخطوطات وكذلك اللوحات على المساجد والمباني القديمة.
والعديد من المدن البوسنيّة الرئيسة مثل سراييفو العاصمة، وبانيا لوكا، وموستار، وترافنيك، وزفورنيك، نشأت وتطوّرت في ظلّ الحكم العثماني وأصبحت مراكز للمؤسسات التجارية والتعليمية (المدارس).
وحتى اليوم في البوسنة والهرسك، ثقافة العثمانيين حاضرة في طقوس العبادات والاحتفالات وبعض العادات العائلية، وتراث ذلك الوقت مرئي في شوارع وأسواق ومساجد مدن البوسنة والهرسك.
وجزء من هذا التراث، في الهندسة المعمارية، على سبيل المثال (مثل الجسر القديم في موستار أو باشتشارشيا في سراييفو)، هو في الواقع جزء من التراث الثقافي العالمي.
جنود مخلصون
من خلال وضع أنفسهم في خدمة الإمبراطورية العثمانية، أصبح البشناق قوة ضاربة مهمة في جميع حملات الغزو نحو الغرب، بعد وقت قصير من سقوط المملكة البوسنية، بدأ جزء كبير من أفراد العائلات النبيلة البوسنية يعتبرون أنفسهم مسلمين كما أسلفنا، وشاركوا في القرن الـ16 في جميع المعارك الأكثر أهمية، مثل معركة كربافسكو بوليي، ومعركة موهاكس الشّهيرة على حدود المجر، ومعركة فيينا، وفي العديد من ساحات المعارك الأخرى.
نتيجة لذلك، حصل البشناق على ألقاب سباهي (وغيرها) وممتلكات جديدة مهمة خارج البوسنة، وكانت المشاركة في الفتوحات العثمانيّة سبباً للفخر، كما نلمح على بوابة جامع خسرو بك أشهر ولاة البوسنة العبارات التّالية:
– قد بنى هذا البنى للطّالبين.
– حسبه لله معطي السّائلين.
– غازي خسرو ذا أمير الجهاد.
– منبع فخر إحسان العادلين.
بمرور الوقت، وبسبب موقعهم الجيوستراتيجي وبسبب هويتهم الأوروبية، أصبح البشناق أحد أهم المجتمعات في الإمبراطورية.
وقد تأثر ذلك بالنجاحات العسكرية في الفتوحات العثمانية نحو الغرب، والقبول الجماعي للإسلام، ولكن بالتأكيد أيضًا بمشاركة العديد من البشناق في قمة الحكومة في البلاط، ومن أشهر هذه الأمثلة مثال محمد باشا سوكولوفيتش، الذي لم ينس جذوره البوسنية أبدًا.
وستيفان هرسكوفيتش الابن الثالث لدوق سانت سافا، أحد أقوى النّبلاء في مملكة البوسنة، تحوّل ستيفان إلى الإسلام واتخذ اسم أحمد، وانتقل إلى القسطنطينية، ثمّ تولى منصب الصدر الأعظم باسم هرسك زادة أحمد باشا.
الانسحاب العثماني
تعتبر معركة فيينّا 1683م التي تخلّى بعدها العثمانيون عن التّوسّع غربًا أحد الأحداث الفاصلة التي أدّت لنزوح إسلامي كثيف إلى البوسنة، فقدت الإمبراطوريّة أراضي شاسعة من المجر وسلوفينيا وكرواتيا والجبل الأسود وصربيا، هذه الأراضي وإن لم تشهد إقبالًا كثيفًا على اعتناق الإسلام، لكن عددًا من القرى والنّواحي فيها اعتنق أفرادها الإسلام بشكل كبير.
ومع تقدّم جيوش الدّول الأوروبية وثورات السّكّان ترك المسلمون المحلّيّون أراضيهم ولجؤوا لأقرب نقطة تسيطر عليها الدّولة العثمانيّة، فكانت البوسنة إحدى نقاط الهجرة التي وفد إليها اللاجئون ثم استقرّوا فيها، خصوصًا أنّ أغلب القادمين من كرواتيا والجبل الأسود وسلوفينيا ثمّ من صربيا يشتركون مع أهل البوسنة في العرق واللغة، ممّا زاد نسبة المسلمين في البوسنة.
تقهقرت الدّولة العثمانيّة تدريجيّاً وبدأ التّراجع التّدريجي في ازدهار حال البشناق، لكن الولاء للعثمانيين لم يتبدّل خصوصاً بين سكّان المدن، لذا عاش البشناق فترة مضطربة عقب انسحاب الدّولة العثمانيّة وبدء الاحتلال النّمساويّ عام 1878م للأراضي البوسنية، إذ ترتب على هذا التغير الجذريّ فقدان امتيازاتهم الاقتصادية والسياسية، والهوياتية في المقام الأول، لتطغى غمامة من الهزيمة على الفضاء العام.
كان لخبر تنازل العثمانيين عن البوسنة لصالح إمبراطورية النّمسا والمجر وقع الصّاعقة على البشناق، كثيرون لم يصدّقوا الأمر واعتبروه مجرّد انسحاب تكتيكي، وما لبث أن نشب صراع مسلح بين المواطنين الذين فوجئوا ولأول مرة منذ 4 قرون بحكم أجنبي وإمبراطورية النّمسا والمجر التي امتلكت وسائل حربية متطورة وعدداً هائلاً من الجنود المدربين.
ولم تلبث الثورات أن قمعت، وقرر عدد كبير من المسلمين البوسنيين الهجرة، منهم من هاجر براً واستقر في تركيا الحالية، ومنهم من ركب البحر متوجهاً للجنوب، إلى الدول العربية التابعة للدولة العثمانية آنذاك، وأحفادهم يحملون اسم «البشناق» حتى الآن.
العلاقات الحاليّة مع تركيا
مرّ ما يقرب من قرن ونصف قرن على زوال سلطة الإمبراطوريّة العثمانيّة على أرض البوسنة، وتتالت سنوات وحقب عصيبة على البشناق، من مذابح في الحروب العالمية الأولى والثانية، وأثناء العدوان على البوسنة والهرسك (1992 – 1995م)، ومنع إقامة وإظهار الشّعائر الدّينية أثناء فترة جمهوريّة يوغسلافيا، كل هذه الأمور كانت كفيلة بأن تقلّل من الأثر الدّيني والحضاري للعثمانيين في البوسنة والهرسك.
وسادت مظاهر العلمنة بين البشناق، وأصبح السّمت الغربي في الحياة يطغى أكثر فأكثر، وبدأ كثير من البشناق يتحدّث عن تأثير العثمانيين السلبي على بلدهم من حيث التّأخر عن التّحديث.
كان العدوان على البوسنة والهرسك في التّسعينيات بداية لما يشبه النّهضة الدّينيّة والهويّاتية؛ لأن البشناق أدركوا قوّة الامتداد الدّيني الثّقافي الذي يربطهم بالدّول المسلمة التي ساعدتهم أثناء العدوان بالسّلاح والمال مثل تركيا وباكستان والسّعوديّة وإيران.
وشهدت الأجيال الجديدة ما يشبه العودة للتّمسّك بالجذور، والفخر بأيّام الحكم العثماني، الذي مثّل نقطة مضيئة في تاريخ البشناق على خلاف كل المحاولات السّابقة الدؤوبة لتطهير البلد من هذا الإرث.
نستطيع الآن ملاحظة قوّة ومتانة العلاقات التي تربط البشناق بتركيا الحاليّة على كافة الأصعدة، السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة، وتدور دائرة التّاريخ على البشناق لتستقرّ في نقطة بدؤوا منها أخيراً الاستفاقة على حاضر صعب، ولكن لديهم شواهد من الماضي ترشدهم إلى سبل الخلاص.
________________________________________________
صحفية متخصصة في شؤون البلقان وأوروبا الشرقية.