تبيّن أنّ الجنس البشري مائل باستمرار نحو الانحراف، وبانتهاك الكرامة الآدمية، والإخلال بموازين القسط، وأن ذلك يمتد من الفرد إلى المجموع، في نزوع جامح، يطبع عالم التكليف، وهو الأمر الذي عبّرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا﴾ (الأحزاب: 72).
وتبيّن أن مقاومة ذلك واجب في نفس الأمر، بقطع النظر عن الإنجاز الدنيوي القريب الذي تعوقه غلبة الطبائع الإنسانية واستفحال الظلم والجهل وما ينجم عن ذلك من اختلال موازين القوى والأخلاق، بحيث لا بد من النهوض بحساسية أخلاقية عالية تقيم الوزن للواجب وتكل النتائج إلى الله تعالى، فكان تخلّف أكثر الناس أو انتفاش الباطل بالقوّة المادية لا يعفي أحدًا من مسؤوليته الأخلاقية إزاء محاولة الدفاع عن الكرامة الآدمية ومواجهة الظلم الذي ينحط بها بظلم الناس بعضهم لبعض، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة، في قوله تعالى: ﴿فَقاتِل في سَبيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذينَ كَفَروا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكيلًا﴾ (النساء: 84)، فإنّ استمرار الانحراف بلا مقاومة، يعني استحالة تقويم المسار البشري وردّه إلى جادّة الكرامة الآدمية، لأنّ ميزان القوّة الماديّة يترسّخ دائمًا لصالح الظلم الفاحش، وهو الأمر الذي يجعل من المقاومة هدفًا وغاية.
إنّ هذا التأسيس لضرورة المقاومة، يقود للبحث في ماهية هذه المقاومة، التي صارت غاية وهدفًا تتوخّى القيام بالواجب، بقطع النظر عن النتائج الآنية، إذ هي أيضًا لديها قصدية دنيوية وهي تقويم المسار البشري وإصلاحه، وهو شعار الأنبياء المذكور على لسان شعيب عليه السلام في الآية الكريمة: ﴿إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ﴾ (هود: 88)، فالإصلاح هدف يسعى إليه المقاومون؛ أي الذين يقاومون الظلم والباطل ويدفعونه بحسب المستطاع، وبالقدر الذي يناسب كلّ حالة من الاختلال والانحراف، وبالقدر الذي يمكن للمقاوم امتلاكه من القوّة: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرينَ مِن دونِهِم لا تَعلَمونَهُمُ اللَّهُ يَعلَمُهُم وَما تُنفِقوا مِن شَيءٍ في سَبيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لا تُظلَمونَ﴾ (الأنفال: 60).
إنّ ماهية المقاومة، والحالة هذه، هي المدافعة، أي الاصطفاف في المكان الصحيح في التاريخ إزاء تناقضات البشر وصراعاتهم، لأنّ هذه المدافعة أولاً مرادة لله، وحاصلة بالضرورة، وهي من فعل الله في الناس، كما في الآية: ﴿وَقَتَلَ داوودُ جالوتَ وَآتاهُ اللَّهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ﴾ (البقرة: 251).
ثمّ إنّ المدافعة حاصلة بحكم التكوين الإلهي للخلق الآدمي، وبحكم طبائع الاجتماع الإنساني، فإنّ تناقض المصالح يوجد صراعًا حتميًّا بأنماط متعددة، وهو أمر مؤكد حصوله في التاريخ، مرأي على طول الوقت، ومن ثمّ يبقى السؤال الأخلاقي المطروح على ضمير الإنسان: ما موقفه من التدافع القائم بالضرورة بين المجموعات البشرية متعارضة المصالح؟! هل يأخذ موقفًا سلبيًّا؟! وما المعركة التي يختارها لنفسه ليكون واحدًا من الفاعلين فيها؟! وإلى أيّ طرف ينحاز؛ للحقّ ولو كان بادي الضعف الماديّ، أم للباطل ولو كان ظاهر القوّة المادية؟! ثمّ ما وظيفته في قلب هذه المعركة؟! وما الدور الذي يختاره لنفسه أثناءها؟!
بتعبير آخر، وطالما أنّ التدافع حاصل حتمًا، بتدخل من هذا الفرد أو لا، وبتدخل من هذه الجماعة أو لا، إذ إنّ الامتناع عن الالتحاق بالتدافع لا يمنع التدافع، فلا بدّ من اتخاذ موقف صحيح من التدافع، الذي أهمّه التدافع بين الحقّ والباطل، والسعي لتعزيز عناصر قوّة الحقّ في مواجهة الباطل.
تعبير الآية الكريمة دقيق: ﴿وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ)، ولأنّ لهذا الدفع أطرافًا تتفاعل، فهي مدافعة، وتعبير المدافعة بالغ الدقة في وصف تسوية الجنس البشري لتناقضاته وصراعاته، أولاً لأن هذه الصراعات مستمرة في التاريخ لن تُحسم إلا بقيام الساعة حينما توضع الموازين القسط، وثانيًا وكما أنّها عملية طويلة فهي أيضًا بطيئة، لا تُحقّق نتائجها إلا بالتراكم، وفي الأثناء لا بد من نكسات، وأثمان باهظة، وجراح وآلام، لا ينبغي أن تقطع صاحب الحق عن واجب المدافعة: ﴿وَلا تَهِنوا فِي ابتِغاءِ القَومِ إِن تَكونوا تَألَمونَ فَإِنَّهُم يَألَمونَ كَما تَألَمونَ وَتَرجونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرجونَ وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا﴾ (النساء: 104).
وإذن، فالمقاومة ليست فعلاً يحسم قضيته مرّة واحدة، وبضربة قاضية، وإنّما هي عملية مدافعة طويلة وبطيئة، قد لا تخلو في بعض محطاتها من أخطاء وثغرات، وحتى هزائم، إذ المهم وجود المجاهدة الذاتية الداخلية للاستفادة من الأخطاء وتقويم الذات، والبناء على المُنجَز المقاوِم لاستعادة الفاعلية الجهادية في دفع الباطل، ومثال ذلك الدروس العظيمة المستفادة من غزوة «أُحد».
يمثّل الصراع في فلسطين صورة كاملة عن هذه الحقيقة، فالقضية الفلسطينية ناجمة عن اختلال دولي فاحش، أفضى بعد هزيمة الدولة العثمانية إلى تشكيل نظام عالمي جديد، اقتسمت فيه فرنسا وبريطانيا المشرق العربي، بما أفضى إلى تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين، في حالة فجّة من الظلم والعدوان والامتهان للعقل والضمير الإنساني، هذا الاختلال ما زال قائمًا، بوجود الكيان الصهيوني، وباستمرار النظام الدولي المنحرف، وبالضعف الهائل الذي يسم العرب والمسلمين، وبانحصار أسباب القوّة المادية في أيدي القوى الظالمة المهيمنة، وللتعقيدات الضخمة التي تغلغلت في أحشاء الاجتماع الإنساني في الاقتصاد والسياسة والعلوم وسوى ذلك، ومن ثم تجد المقاومة الفلسطينية نفسها في مواجهة كل ذلك، لتكون المقاومة مدافعة من حيث الطول والبطء.