منذ أن وضع الإنسان قدمه على الأرض، وهو محاصر بالفتن، التي تستهدف صرفه عن غايته، أو لتختبر حقيقة إيمانه وقناعاته، أو لأن الفتن جزء من الوجود والحياة، لكن في العصر الرقمي، ومع تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي، واستحواذه على أعمال وإمكانات ومجالات كانت حكراً على الإنسان، باتت الفتن أكثر ضراوة وأعمق تأثيراً، خاصة بعد طرح تساؤلات حول جدوى وجود الإنسان ما دامت الآلة أصبحت بديلاً أكثر فائدة من البشر.
اللغة تُعرف الفتنة بأنها الاختبار أو الابتلاء أو الامتحان، لأنها تكشف بواطن الأمور، وطبيعة الأشياء، وتكاد الفتن تنحصر بين حدين كبيرين، هما: الشهوات والشبهات، وتدور حول المال والنساء والسلطة والنفوذ والشهرة.
الإغواء الرقمي!
تشير إحصاءات الرقمية لعام 2024م أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم حوالي 5.35 مليارات شخص، وأن 94% من مستخدمي الإنترنت لديهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض البلدان الغربية والخليجية تبلغ نسبة مستخدمي الإنترنت 99% من السكان، وهناك 1.3 مليار موقع على شبكة الإنترنت، 82% منها غير نشط،، وينفق بعض الأشخاص 7 ساعات على الإنترنت يومياً، كذلك تجري 8.5 مليارات عملية بحث على موقع «جوجل» يومياً، ويبلغ عدد الدخول من الهواتف المحمولة 55% من جملة المرور على الإنترنت، ويبلغ الإنفاق الإعلاني على الإنترنت 442.6 مليار دولار، وهو 59% من الإنفاق الإعلاني العالمي، كما بلغت إيرادات الإعلان على موقع «فيسبوك» وحده حوالي 153.8 مليار دولار عام 2023م.
من ناحية أخرى، يوجد حوالي 42 مليون موقع إباحي مجاني، وبعضها من أعلى معدلات الدخول عالمياً، وأن 20% من عمليات البحث على الهواتف المحمولة تكون عن مواد إباحية، وأن 83% من الدخول على المواقع الإباحية يأتي من الهواتف المحمولة.
أما دخول الذكاء الاصطناعي كإحدى القفزات الكبرى في العالم الرقمي، فخلق فتنة أعمق، لأنه يُحاكي كثيراً من أدوار الإنسان وقدراته، ويؤدي كثيراً من مهامه، ويسعى أن يحوذ جانباً من التفكير والعاطفة الإنسانية، وأن يكون بديلاً محتملاً عن الزواج والصداقة، فهناك اندهاش بقدرات الذكاء الاصطناعي تجاوزت حدوداً غير متوقعة، فلم يستطع البعض أن يميز بين العالم الافتراض والواقع؛ بل إن البعض رأى في هذا الذكاء بديلاً آمناً يوفر الدفء والعاطفة عن العلاقات الإنسانية، وبلغ الهوس بالبعض ليصمم شخصيات باستخدام الذكاء الاصطناعي والزواج منها، مثلما فعلت الإسبانية «إيشا فرامس» التي صممت رجلاً باستخدام تقنية ثلاثي الأبعاد وأعلنت أنها تزوجت به، وأنه يُلبي احتياجاتها العاطفية، مدعية أن هذا الزواج قد يتطور إلى علاقة حقيقة مستقبلاً! وكذلك الأمريكية «روزانا راموس» التي تزوجت من روبوت أنشأته باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي أسمته «إرين كارتال»، وأنها وقعت في غرامه، وتزوجته!
وادعى البعض أن العلاقة بين الإنسان والروبوتات قد تتطور لتصبح علاقة عاطفية وجسدية، وأن الذكاء الاصطناعي قد يحل مشكلة الزواج الأبدية، بتخليق شركاء بمواصفات خاصة تُلائم احتياجات كل شخص، وتمنع المفاجآت في العلاقات الشخصية والاجتماعية، وذلك من خلال فهم وتحليل الجوانب العاطفية للإنسان، وكيفية تلبيتها، وفي كتابها الصادر منذ سنوات بعنوان «الحب الآلي: هل يمكننا أن نتعلم الحب من الروبوتات؟»، تؤكد مؤلفته «إني جيفرز» أن هناك ميلاً بشرياً لرؤية أنفسنا كآلات، خاصة بعدما دخلت الآلات الشبيهة بالبشر إلى المجال المنزلي.
ويشير خبراء أن كثرة المواد الإباحية في العالم الرقمي، وسهولة الوصول إليها، كانت تهدف لتخفيض الارتباط الزواجي، لكن تلك المواقع حققت إدماناً، قوضت كثيراً من العلاقات الإنسانية والاجتماعية المستقرة منذ خلق الإنسان، فمنذ دخول الرقمية إلى مجال العلاقات الإنسانية والاجتماعية، حدثت تغيرات في طبيعة تلك العلاقات، فتفككت كثير من الروابط أو ضعفت، في ظل استبدال الآلة بالإنسان.
والحقيقة أن الرقمية والذكاء الاصطناعي عمق الرغبة في عدم التواصل الإنساني، والاكتفاء بالتواصل عن بُعد من خلال الوسيط الرقمي، وهو ما أفقد كثيراً من البشر إمكانية التعلم الأخلاقي والسلوكي من خلال الاحتكاك، والتفاعل، فأصبحت المعلومات الهدف وليس السلوك، ففقدت الكلمات دفئها وعمقها وفاعليتها، فمنذ العام 2017م شكلت الردود الآلية على الرسائل حوالي 12% من جميع الرسائل المرسلة، أي أن الذكاء الاصطناعي تكفل بإرسال 6.7 مليارات رسالة يومياً نيابة عن البشر، وتلك النصوص متشابهة، لكنها باردة بلا مشاعر أو عمق، بعدما فوّض الإنسانُ للآلات حق الرد نيابة عنه.
الذكاء الاصطناعي يُعد ليتفوق على الذكاء البشري، وبالتالي سيرتكن الإنسان إلى الآلة، وستتضاءل قدراته مع مرور الوقت، لكن القلق الحقيقي هو ما أعلن خبراء من أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الروبوتية تخوض أبحاثاً وتجارب مكثفة لخلق مساحات عاطفية ومجسدة بين الإنسان والآلة، فتشير دراسات غربية استقصائية إلى أن من التأثيرات الاجتماعية والإنسانية للذكاء الاصطناعي تراجع مفهوم وقيمة الصداقة؛ إذ تحولت الصداقة من الإنسان إلى الآلة، وأخذ بعض المفتونين بالروبوتات يقارنون بين الصداقة مع الأشخاص والصداقة مع الآلة، ويعددون ميزات صداقة الآلة، وهؤلاء تتقزم لديهم مع مرور الوقت القدرة على فهم وتفسير الإشارات والإيماءات والنظرات الإنسانية، التي يستحيل على الآلة فك لغزها، فالصداقة المصطنعة من خلال الذكاء الاصطناعي لن تستطيع أن تفهم أو تفسر نبرة الصوت ونظرة العين ولغة الجسد، ولن يستطيع الروبوت أن يبث في كلماته روحاً وقت الأزمة أو الانكسار.
ورغم ذلك، نجح الذكاء الاصطناعي في الاستحواذ على مساحات من الإنسانية، دفعت الإنسان إلى الميل للعزلة والرغبة في تقليل تفاعلاته الإنسانية، وهناك من دق أجراس الخطر لمقاومة فتنة الإغواء التي تمارسها الرقمية من خلال إخراج التكنولوجيا الرقمية لوقت ما من الحياة مثل وقت الطعام أو النزهة أو الالتقاء بين الأهل والأصدقاء، والنظر للرقمية كجزء خارجي وليس كمكون داخلي للإنسان، وحذرت شخصيات بارزة مثل «سام ألتمان»، مبتكر برنامج الدردشة الآلي (ChatGPT)، من أن تلك التكنولوجيا تشكل خطراً وجودياً على البشرية، بل إن البعض شبهها بأخطار الحرب النووية والأوبئة.
وهو ما أكدته دراسة أمريكية بوجود انخفاض في معدل الصداقة بين الأمريكيين لصالح العزلة، ورغم ذلك فإن الكثير من الأبحاث والدراسات لا تسعى للخوض في هذا المجال، لوجود إغراء بالغياب الإنساني، لتبقى الفتنة بين الإنسان والآلة قائمة.