تختلف عادات الشعوب وتقاليدها وتتنوع حسب الزمان والمكان والموروثات والثقافة المؤثرة في البيئة، سواء كانت عربية أو غير عربية، واختلفت تلك العادات في القُطر ذاته من زمن لزمن مع الاحتفاظ ببعض تلك الموروثات كبقايا ثقافية تراثية تحفظ على الشعوب هويتها وتميزها عن غيرها بالرغم من الدين الواحد، غير أن هذه العادات تتفق فيما بينها على قيم ذات مرجعية دينية في معظمها؛ كقيمة التسامح والتكافل والفرحة المشتركة بين الأسر في المجتمع الواحد.
وإيماناً بقيمة التعارف بين الشعوب كما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وانطلاقاً لتحقيق معرفة تقاليد الأجداد والسابقين من المسلمين، نقدم تلك السلسلة الرمضانية، كل حلقة تمثل بلداً إسلامياً ما، منه ما زال موجوداً ويصارع من أجل البقاء رغم قداسته، ومنه ما سقط حين ضعفت دولة الإسلام وهرب حكامه باكين كالنساء، ومنهم الذي ما زال يحمل روعة التقاليد وعمق الحضارة وأصالة المظاهر التي اختلطت بشيء من الحداثة فأضافت رونقاً فوق رونقها.
وفي تلك السلسلة نبدأ من هناك، حيث عبق التاريخ وبقاياه التي ما زالت تتحدى النظام الأوروبي الذي فشل في القضاء على روح الإسلام في شوارعها العتيقة وبناياتها المتميزة، حيث الأندلس، الفردوس المفقود بمدنه التي تذكرنا بالمجد والحضارة والعلم والقوة النافذة والسيطرة المطلقة، حيث طليطلة وقرطبة وجبل طارق وبلنسية وغرناطة وغيرها من المدن العريقة تاريخياً وإنسانياً ولمدة ثمانية قرون حكم المسلمون فيها تلك البلاد.
وبلاد الأندلس لمن لا يعرف هي شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال حالياً)، مساحتها 600 ألف كيلومتر مربع، تفصل بين شبه الجزيرة الأيبيرية والمغرب ما يعرف بمضيق جبل طارق، تقع على طرفي المضيق مدينة سبتة التاريخية على الجانب الأوروبي والجهة المقابلة جبل طارق ويفصل بينهما 12.8 كم(1).
الفتح الإسلامي
كان الفتح الإسلامي للأندلس في عام 92هـ؛ أي في عصر الخلافة الأموية، وتحديداً في عهد الوليد بن عبدالملك الخليفة الأموي الذي حكم من عام 86 – 96هـ، وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف عهد الوليد.
فحين استتب للقائد موسى بن نصير الأمر بالمغرب العربي وفكر في متابعة فتوحاته ببلاد الأندلس، كان أمامه عدة أخطاء وقع فيها من قبله ممن حاولوا فتحها، وإشكالية أخرى في عدد السفن التي سوف يحتاج إليها في عبور المضيق، فيقول د. راغب السرجاني: «كذلك تعداد الجيش المحارب، فاتخذ ثلاث خطوات لحل تلك الإشكالية»(2):
أولاً: بناء الموانئ وإنشاء السفن.
ثانياً: تعليم الأمازيغ (البربر) الإسلام ليؤمّن ظهره ويكون منهم جيش الفتح.
ثالثاً: تولية طارق بن زياد قيادة الجيش وهو القائد الكفء والقادر على فهم وقيادة قومه.
وفي 28 رمضان 92هـ، دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، بعدد من المسلمين لا يتخطى 12 ألفاً تحت قيادة رجل يتحلى بالتقوى والكفاءة، في مواجهة 100 ألف مقاتل، واستمرت المعركة بشراستها 8 أيام انتصر فيها المسلمون نصراً مؤزراً، لتخرج بلاد الأندلس من حقبة طويلة من الظلام، وتدخل في عدل الإسلام وحضارته التي بناها المسلمون بسواعدهم وعلمهم لثمانية قرون»(3).
التقاليد الأندلسية في رمضان
أولى مسلمو الأندلس اهتماماً خاصاً واحتفالات متنوعة بدخول شهر رمضان المبارك، خاصة أن فتح الأندلس ارتبط في أذهان الشعب هناك بهذا الشهر الكريم، فكانت هناك طقوس خاصة يمارسها المسلمون والحكام كل من ناحيته لإبداء السعادة والاحتفاء بمقدم الشهر الكريم التي غالباً ما أخذت الطابع الأموي.
فعلى مستوى الأمراء: كانت تعد الولائم فيما يسمى بتكية السلطان للفقراء وأبناء السبيل وللطلاب، خاصة حتى لا يشغلهم شاغل عن تحصيل العلم والعبادة، يهتم فيها الأمير أو الحاكم بتقديم أفضل أنواع وألوان الأطعمة والمشروبات، وهي تشبه ما يعرف بموائد الرحمن في زماننا هذا، ووصل الأمر بالإنفاق على هذا الباب أن تقوم الدولة بحمل الطعام على عجلات تجرها الأحصنة تحمل الطعام وتطوف الشوارع به لتصل أكبر عدد ممكن من المسلمين أو لمن يريد منهم، فلا يبيت أحد وهو في حاجة لطعام، وكانت غالباً ما تعود كما هي نظراً لانتشار التكايا في الشوارع، فلم يعد أحد في حاجة للمزيد، وكان الأمراء يحضرون تلك التكايا والموائد يأكلون بين الناس.
وحاز جامع قرطبة على اهتمام خاص من كافة الحكام طيلة 800 عام، حيث حرصوا جميعاً على أداء الصلوات خاصة في شهر رمضان بهذا المسجد، فكان الإنفاق على المسجد ببذخ من خزينة الدولة لتزيينه والتفنن في إضاءته، هذا فضلاً عن إضاءة الشوارع بالشموع طيلة شهر رمضان، كما يوقد البخور كذلك لتحمل المدن رائحة العود.
ويصف ابن عذاري المراكشي اهتمام المنصور بن أبي عامر معبراً عن اهتمامه بجامع قرطبة في رمضان قائلاً: كان يرسل ثلاثة أرباع القنطار من الكتان للفتائل، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت، وكان ما يختص برمضان المعظّم ثلاثة قناطير من الشمع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقصر لإقامة الشمع المذكور، والكبيرة من الشمع تُوقد بجانب الإمام، يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلًا (من 22 إلى 32 كيلوغرامًا)، يحترق بعضها بطُول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة(4).
وأما على المستوى الشعبي: فكانت التكايا والموائد لا تخص الأمراء وحدهم، وإنما الأغنياء والقادرون والمسؤولون يهتمون بإقامة تلك الموائد ويحرصون على أن تحوي أنواعاً مختلفة من الأطعمة تكون مفتوحة للعامة والفقراء(5).
وقد اهتم الأندلسيون بالعمارة الإسلامية وفنونها العبقرية التي ما زالت شاهدة حتى اليوم، لكن اهتمامهم بها في رمضان فكان يتخذ شكلاً آخر من تزيين المساجد وتجديد فرشها وإضاءتها، كذلك تزيين الشوارع والطرقات والحدائق العامة المنتشرة بربوع الأندلس.
وحملت ليلة السابع والعشرين اهتماماً خاصاً على المستوى الشعبي والرسمي، فكانت تطفأ المصابيح وتوقد الشموع وتمتد الاحتفالات حتى ساعات الصباح الأولى، فيصف المؤرخ ابن صاحب الصلاة(6) شموع مئذنة جامع قرطبة فيقول: «والشمع قد رُفعت على المنار رفع البُنُود، وعُرِضَت عليها عَرْض الجنود، ليتَجَلَّى طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد، وقد قُوبل منها مُبَيَّض بمُحَمَّر، وعورض مُخْضَرٌّ بمُصْفَرٍّ، تَضْحَك بِبُكائها وتَبْكي بِضَحِكِها، وتَهْلَك بحَيَاتِها وتَحْيَا بَهَلْكِها، والطِّيب تَفَغم أفواحه، وتَنَسم أرواحه، وقتارُ الألنجوج والنّدُّ، يسترجع من روح الحياة ما نَدّ، وكلما تصاعد وهو مُحَاصَر، أطال من العُمُر ما كان تَقَاصر، في صفوف مَجَامِر، ككُعُوب مُقامر».
وبالرغم من زوال دولة الأندلس، فإنها ما زالت حتى يومنا هذا تحتفظ ببعض تلك العادات والتقاليد وتجددها مع مقدم رمضان كل عام معبرة عن عظمة حضارة كانت يوماً هنا في تلك البلاد.
________________________
(1) من كتاب قصة الأندلس للدكتور راغب السرجاني، ص 13.
(2) المصدر السابق، ص36.
(3) المصدر السابق، بتصرف.
(4) البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي (ت 712هـ).
(5) من كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للمؤرخ الأندلسي المقري التلمساني، بتصرف.
(6) هو أبو محمد عبدالملك بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الباجي المعروف بابن صاحب الصلاة (ت 594هـ/ 1197م) هو مؤرخ، أصله من مدينة باجة في جنوب البرتغال الحالية، ثم استوطن إشبيلية.