قامت الدولة القُطْرية من نقطة التراجع الحضاري العربي الإسلامي، متحالفة مع النهج العلماني الانتقائي (لكنه الهجين المشوش)، من حيث استبعاد مفهوم الدين عن حركة المجتمع الجديد الذي ينتمي إلى نظام عالمي بدأ في التشكل على أنقاض الخلافة الإسلامية (العثمانية)، هذا النظام الجديد يقوم على تبني مفاهيم الفلسفة المادية بشقيها: الغربية (النظام الرأسمالي)، والشرقية (النظام الشيوعي).
الدولة البرجوازية الوطنية تقوم على مبادئ الليبرالية في الاقتصاد والسياسة وسيادة القانون والدستور
وتم تدشين بناء الدولة القُطْرية العربية في هذا الإطار الفكري الذي يتجاوز نقطة الدين، وأحلَّ محله العلمانية التي سوف تمثل نهجاً عربياً مشوشاً في نظام الحكم والإدارة والثقافة، مزودة بمفاهيم القومية –على أساس التزين الشكلي- الفرعونية والمصرية والوطنية والطورونية والفينقية وغير ذلك من المفاهيم المشكلة للحقبة الجديدة، في اختفاء متعمد لمفهومين أساسيين، هما: الأمة، والخلافة، وإعلاء مفهوم «الدولة» والترويج له بأنه الخلاص الجديد من كل صور الفقر والمرض والجهل والتخلف.
أنماط الدولة القُطْرية ونظم الحكم
إن فكرة الدولة القُطْرية لم تخرج من بنات البيئة العربية ذاتها، وإن قامت بعملية ارتدادية لمفاهيم القبيلة والسلطة الأبوية وتقاليد الاستبداد والطبقية التي لها جذور في البيئة العربية لما قبل الإسلام، وفي ضوء ذلك نشأت عدة أنماط لصورة الدولة القُطْرية العربية الجديدة، تتماشى مع طبيعة هذه التقاليد وخصوصيتها في بيئتها الجديدة، ويمكن أن نلحظ هذه الصور في الأنماط الآتية(1):
1- الدولة البرجوازية الوطنية:
هذا النمط من الدولة القُطْرية يقوم على مبادئ الليبرالية في الاقتصاد والسياسة، وتعلن سيادة القانون والدستور والمحافظة على الحريات العامة، لكن هذا يظل إلى وقت يتعرض فيه نظامها السياسي للخطر، فتنقلب إلى نظام مستبد يطلب الحماية من الجيش، وذلك حتى تستقر الأوضاع على نظامها ومصالحها الطبقية الخاصة.
2- الدولة الوطنية الثورية:
هذه الصورة تقوم على إعلان الحرب على كل أشكال الاستعمار، وتعمل على تأميم كثير من مؤسسات الاقتصاد، وفي الطريق تأخذ كذلك مؤسسات التعددية السياسية (الأحزاب، الصحافة والإعلام عامة)، وتقوم ببعض الإسهامات الاجتماعية التي تجذب بها الطبقات الأكثر حرماناً وفقراً في المجتمع بهدف تشكيل قاعدة اجتماعية تشكل سنداً لها في الاستبداد بالسلطة، أو في الإخفاقات التي يمكن أن تقع فيها، مضحية بالمفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي والحركات المعارضة التي تمارس النقد لأفعالها.
الدولة الثورية تقوم على إعلان الحرب على أشكال الاستعمار وفي الطريق تأخذ مؤسسات التعددية السياسية
ويتحول في هذا النمط رأس الدولة إلى القائد الأوحد الذي يجب أن ينقاد له الجميع، ويمثل هو مصدر القانون والتشريعات وكل شيء، ويطرح فكرته عن الأمن التي تقابل كل أفكار النهضة والتقدم التي يتم التضحية بها مع فئة المفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي، فهذه الصورة تجمع بين «البروليتارية» في الشكل، و«الأوليجاركية» في الحكم، وتستخدم القمع سلاحاً لفرض تصوراتها وسياساتها.
3- الدولة الريعية:
هذا النمط أخذ في الظهور منذ بداية الحقبة النفطية العربية، ورغبة النظام الرأسمالي العالمي في الهيمنة على هذه المنطقة لأسباب طبيعية وجيوسياسية، ومع زرع الكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه عقد اتفاقات عقدية لاستخراج الوقود الأحفوري ومشتقاته بأدواته التكنولوجية، في مقابل حياة الرفاهية المادية وشراء التكنولوجيا وتحقيق اللذة المادية لشعوب هذه الدول.
ومن حيث نظام الحكم، أعادت الدولة الريعية مفاهيم القبلية والعشائرية لتكوين طبقة رأسمالية متحالفة مع النظام الرأسمالي الذي توحدت معه في أهدافها الخاصة (البقاء في الحكم، الرفاهية المادية).
الدولة الريعية ظهرت منذ بداية الحقبة النفطية ورغبة النظام الرأسمالي في الهيمنة على هذه المنطقة
الدولة القُطْرية.. والإمكان الحضاري
هل حققت الدولة القُطْرية في أي صورة من صورها فرصة للإمكان الحضاري، الحقيقة لا يمكن الإجابة بنعم أو نصف نعم، بل يمكن القول: إن ما حققته الدولة القُطْرية في صورها المتعددة، كل ما هو ضد الإمكان الحضاري، على سبيل المثال: شكلت التبعية السياسية للمنظومة الغربية الحصاد المر لهذه التجربة، وأنموذج غزة أشد وضوحاً وتبياناً لهذه النتيجة.
أما في الجانب الحضاري، فشكل التغريب والعلمانية منعطفاً خطيراً للحالة الحضارية للأمة العربية، يشير المفكر الراحل المستشار طارق البشرى إلى ذلك بقوله: «إن من أخطر وجوه الإفساد القيمي في هذا الشأن، أن ما كان يعتبر عاملاً داخلياً صار يعتبر عاملاً خارجياً في تقويم أحداث التاريخ نفسه، وانعكس الوضع، فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر، صار يعامل أحياناً كما لو كان عاملاً داخلياً، وذلك عندما ينظر إليه البعض عنصراً مساهماً وباعثاً للنهوض والتقدم.
وقد جرى له هذا التقويم تحت إملاء المفهوم السائد عن «وحدة العصر» بالمعنى الأممي والحضاري، وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب، والالتحاق المعنيِّ هنا ليس التحاقاً مادياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً، ولكنه التحاق يتعلق بالوعي»(2).
العرب فقدوا إمكانية قيام وحدة عربية لا على أساس قومي أو اقتصادي أو سياسي أو حضاري
ويضيف موضحاً اتصال واستمرار حركة التغريب وتغييب الوعي وتحقيق الانفصال عن الجذور والتاريخ والتشتت الحضاري بقوله: «وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن المعاصرة أو وحدة العصر الحديث بمعناها الأممي والحضاري هي من أسس ما يروج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعي بالذات، وهي من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري، ولا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز، ويرعى صالحنا الحضاري والمادي، ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا، فيعيد تشكيله على غير ما قام في الواقع الماضي، كما أنه يقيم التبعية والتجزؤ، لا في الواقع وحده، ولكنه يقيمها في الوعي ذاته»(3).
كما أن البحث في ملفات حقوق الإنسان ووضع الإنسان العربي يوضح بلا شك تراجع أي مسار للإمكان الحضاري، حيث يحل القمع والتدهور للحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية وتراجع مؤشرات الحقوق الأساسية في الصحة والتعليم في شطر كبير من دول الوطن العربي، في مقابل التهديد الدائم باستبدال كل شيء في مقابل الحصول على الاستقرار والأمن!
كما فقد العرب لكل إمكانية لقيام وحدة عربية لا على أساس قومي، ولا على أساس اقتصادي، ولا على أساس سياسي، ولا على أساس حضاري؛ حيث غابت عوامل الوحدة الروحية والثقافية والدينية بين نظم الحكم الجديدة التي طرحت تصوراتها الخاصة لكل قُطْر على حدة.
________________________
(1) انظر قراءات مهمة في هذا الطرح:
– محمد سعيد طالب: الدولة الحديثة والبحث عن الهوية، عمان، دار الشروق، 1999.
– برهان غليون: اغتيال العقل.. محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط3، 1990.
– محمد عابد الجابري: إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، بيروت، مجلة المستقبل العربي، عدد (167)، 1993.
(2) طارق البشري: «الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية» في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، حولية أمتي في العالم، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2006، ص 8.
(3) المرجع السابق، ص 8.