إهمال التاريخ يتخذ منحى متصاعداً لدى قطاعات واسعة من الشباب عالمياً، ينظر هؤلاء إلى التاريخ على أنه علم لا يُمكّنهم من تأمين مستقبلهم المهني وتحقيق دخل مرتفع، ويشككون في إمكانية نفعه في حياتهم ومعاشهم، وفي منطقتنا العربية والإسلامية، فإن علاقة الشباب مع التاريخ تأخذ منحى الخصومة، فهم لا ينظرون إلى التاريخ إلا من خلال الإحباطات والانتكاسات والدماء والنساء؛ لذا اتخذوا موقف الإعراض عنه لظنهم بقلة نفعه، ومرارة استعادته.. ولكن السؤال: هل التاريخ غير نافع، ودراسته لا جدوى منها ولا فائدة؟ وهل تاريخ الإسلام أحداث مخزية لا يصح استرجاعها لكارثيتها؟
التاريخ والهوية
التاريخ يحيط بنا، تلك حقيقة، لا يستطيع المرء أن ينكرها، وهو يساعدنا ويلهمنا في أن نعرف من نحن، وتعرف الآخر، فهو أحد محددات صناعة الهوية، وكثير من الأجيال اللاحقة ما هي إلا مجرد صدى لصوت الأجداد وأفعالهم، ومن ثم فالتاريخ يؤدي دوراً مركزياً في الحفاظ على الذات من الذوبان أو الانزواء، كما أن الهوية تُصنع وتتشكل من خلال التاريخ والتجارب، والهوية لا تتحدد إلا من خلال تعريف الذات والآخر، ولعل هذا الدور المركزي للتاريخ في صناعة الهوية وصياغتها هو الذي دفع جميع الدول للحرص على تدريس التاريخ إلزامياً في مدارسها في مراحل التعليم الأساسية إلى ما قبل الجامعة.
وكلما كان تاريخ الأمة ثرياً وممتداً؛ كانت الهوية أكثر عمقاً، وأكثر وضوحاً، ويشير علماء الاجتماع إلى أن الروايات والسرديات هي ما تشكل هوية البشر، والتاريخ لا يصنع هوية الفرد، ولكن يصوغ هوية المجتمع، ويصنع قواسم مشتركة بين أفراد المجتمع، ويمنحهم تميزاً بين المجتمعات الأخرى، فالتاريخ يمنحنا هوية مشتركة، ولهذا استهدفته الحروب الثقافية بالتشويه، فالتشويه يُفتت الهوية المشتركة في المجتمع، من خلال تشويه الشخصيات الفاعلة والمحورية، وتشويه الانتصارات الكبرى، التي تُشعر الفرد والمجتمع بالثقة.
المؤرخ الإنجليزي آرثر مارويك يرى أن التاريخ يشبع حاجة غريزية في الإنسان، ولعل الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتفظ بتاريخه، ومن ناحية أخرى، فالتاريخ يمنحنا المادة والأدوات اللازمة لفهم وتفسير الماضي، والانتقال منه لمقارنة التجارب وتاريخ الأمم المختلفة، كما أن فهم التاريخ يساهم في صناعة المستقبل، لكن الاستفادة من التاريخ تستلزم إقامة علاقة حوارية جدلية معه، وقراءته برؤية نقدية والفرز المتجدد لأحداثه، وليس من خلال التعامل معه بمنطق التسليم والفخر.
تشير دراسات اجتماعية إلى أن معرفة الشباب بقصص المكان وتاريخه تقوي الإحساس بالهوية، فهذا يخلق تطبيعاً وارتباطاً بين المرء والمكان الذي يعيش فيه.
والتاريخ مدرسة للتعلم، وكما تقول الحكمة: «أولئك الذين يفشلون في التعلم من التاريخ محكوم عليهم بتكراره»، فدراسة الأخطاء التاريخية بوعي حضاري وتجريد الخبرة الإنسانية في التعامل مع الأحداث يساهم في عدم تكرار الأخطاء، فمثلاً لم يتعلم هتلر درس التاريخ في التعامل مع الطقس الروسي في الشتاء عندما اجتاحت جيوشه الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، فقد كان الشتاء أحد أسباب هزيمة نابليون بونابرت عندما غزا روسيا عام 1812م بجيش يزيد على 600 ألف جندي، فخسر منه 400 ألف بسبب البرد والجوع.
الشباب.. وتاريخ الإسلام
تشير دراسات إلى أن الشباب المراهقين إذا امتلكوا معرفة أقوى عن تاريخ عائلاتهم، فإن ذلك يساهم في تكون هويتهم بصورة أقوى، ويمنحهم مهارات تواصل أفضل، ومعدلات أقل من الاكتئاب والقلق، ويرجعون السبب إلى أن هؤلاء يمتلكون معرفة أفضل في كيفية إدارة إحباطاتهم ومواقفهم العصيبة، وتطبيق ذلك على العلاقة بين الشباب وأمته، فالشباب الذين يمتلكون معرفة أعمق وأفضل عن أمتهم، فإنهم ذوو هوية أقوى، ولهم قدرة أفضل على التواصل، وإدارة إحباطاتهم أو حتى الهزائم السياسية والعسكرية، ومن هنا نفهم حرص الصحابة الكرام والتابعين على تعليم أولادهم تاريخ المغازي، فيقول علي بن الحسين رضي الله عنهما: «كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، كما نُعلم السورة من القرآن»، وقد نبه الإمام ابن شهاب الزهري إلى ذلك بقوله: «علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة».
وكان إسماعيل حفيد الصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، يقول: «كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا ويقول: يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها»، وبذلك يتضح مغزى مقولة عباس العقاد: «إن التاريخ عِرض الأمة»، فاستباحة التاريخ لا تقل عن استباحة العِرض، والحفاظ على التاريخ هو حماية للعِرض من الدنس والاعتداء.
وقد تعرض التاريخ الإسلامي لعمليات تشويه مكثفة ومتكررة وممنهجة، خلقت خصومة بين الشباب وتاريخهم، فتم تشويه الكثير من أحداث التاريخ وشخصياته الكبيرة، والتنقيب عما يشوّه سيرتهم، وإبراز الأخطاء بصورة فجة لتطغى على الصورة الكلية، فعلى سبيل المثال؛ تحول تاريخ الإسلام في أذهان الشباب إلى مآسٍ وفواجع ودسائس ومؤامرات للوصول للسلطة، فتاريخ الأمويين الذي يعد من أهم عصور الفتوح الإسلامية، نُظر إليه من خلال الترف وقمع الثورات وتوريث الحكم، وأما العباسيين الذي يعد أزهى عصور الثقافة والحضارة الإسلامية، تم تصويره كعصر قمعي دموي عنيف.
والحقيقة وإن كانت لتشويه التاريخ الإسلامي جذور قديمة، إلا أن الاستشراق له دور في هذا التشويه، بعدما سيطرت على الاستشراق فكرة المركزية الغربية للتاريخ الإنساني، وحالة العداء مع الإسلام، لذلك كانت قراءة المستشرقين للتاريخ قراءة تهدف إلى إضعاف الهوية التي يصوغها التاريخ من خلال تشويهه، فتم التركيز على الإلحاد والحشاشين والزنادقة وحياة الترف والمجون، وإغماض الطرف عن عصور القوة والإشعاع الحضاري؛ لأن الرسالة المُراد تبليغها من تلك القراءة أن التاريخ الإسلامي عصور للظلام والقمع.
وزاد من حدة هذا التشويه استخدم الأدب والفنون لتأكيد هذا التوجه في الوجدان المسلم خاصة أجيال الشباب، ووصل التشويه إلى إنكار الحقائق، فبعض المثقفين العلمانيين العرب كرر مقولات الاستشراق خاصة اليهودي، فنجد أديباً ينفي وجود أي مبادئ أو مُثُل نبيلة في التاريخ الإسلامي، وآخر ينكر أن المسجد الأقصى الموجود في القدس هو المقصود في القرآن الكريم، أو من يحاول أن يثبت التأثير اليهودي على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا التشويه للتاريخ الإسلامي أثر على الارتباط بين كثير من الشباب المسلم وتاريخهم، وتلك أزمة هوية، لها تداعياتها المستقبلية إذا لم تعالج، وتُصحح تلك الأخطاء والانحرافات.