من الأخلاق النبيلة في الإسلام، لا يتصف بها إلا الكريم وحسن الخلق والتربية والانتماء للدين الخالد، وقلما تجد متديناً بخيلاً أو ذا خلق جاف ورديء تجاه حاجات الناس وسمعتهم وإنسانيتهم.
الجود لغة: هو المطر الغزير، وجاد الرجل بماله يجود جوداً فهو جواد، وقيل: الجواد هو الذي يعطي بلا مسألة، صينة للآخذ من ذل السؤال(1).
واصطلاحاً: قال القاضي عياض: وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، ومعانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق، فجعلوا الكرم الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضاً جرأة، وهو ضد النذالة(2).
ترغيب القرآن في الجود والكرم
رغب القرآن الكريم في صفة الجود والكرم والعطاء والجود، ولصقها بصفات المؤمنين، فقال تعالى تمجيداً لهم ووعداً بالأجر الكبير: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة)، يقول ابن كثير: هذا مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف(3).
وقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274)، يقول ابن كثير في هذه الآية: هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار والأحوال من سر وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً(4).
حث النبي على الجود والسخاء
وفي السيرة النبوية، حظيت مسألة الكرم والجود باهتمام خاص من نبي الإسلام الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كان جواداً كريماً، وكان في رمضان كالريح المرسلة، فقد «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
ويبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإنفاق والجود على الأهل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» (رواه مسلم)، فالعطاء والجود له أولويات وترتيب، فإذا تزاحمت الواجبات كانت هناك أولويات، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأهل والأقارب أولوية في الإنفاق.
وعن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة»، قال: فلجت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: «هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا -من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله- وقليل ما هم، ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها، عادت عليه أولاها، حتى يقضي بين الناس» (أخرجه البخاري).
موقف السلف والعلماء في الجود والكرم
اتصف الصحابة الكرام بالكرم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل تنافسوا على العطاء فيما بينهم، فيقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»(5)، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم»(6)، وعن حسن بن صالح قال: سئل الحسن رضي الله عنه عن حُسن الخلق فقال: «الكرم والبذلة والاحتمال»(7).
من صور الكرم والجود
مجالات الجود متعددة ومتنوعة يستطيع كل مسلم أن يتصف بها دون جهد أو مشقة، ولا يستطيع مسلم كذلك أن يتنصل من الجود بحجة أنه لا يستطيع، ومن صوره:
– العطاء بالمال والمملوكات والإطعام والمشروبات والملابس والتداوي وكافة الأشياء المادية التي يمكن أن توهب للآخرين فتكفيهم وتشبع احتياجاتهم وتجبر كسرهم.
– عطاء العلوم والمعارف، فلا يضن العالم على الجاهل بعلمه وحكمته.
– النصح لله ولرسوله ولسائر المسلمين.
– الابتسامة والحب والمودة لخلق الله.
– العطاء الجسدي، في مساعدة من يحتاج وإعانة من يبتغي ومؤازرة العاجز.
– وأعلى صورها التضحية بالنفس وبذلها في سبيل الله لنصرة دين ورفع رايته.
الدوافع على الكرم والجود
والأسباب الدافعة للبذل والعطاء كثيرة، منها أن الله عز وجل أشاد بالكرماء وأهل الجود، وحث على ذلك الخلق ووعد أصحابه بالأجر العظيم في الآخرة، كذلك حاجة الناس للعطاء واستحضار نية كفاية مسلم عن حاجته وإدخال السرور على أسرة مسلمة، وكذلك سد ثغرة خلق التعاون والتكامل المجتمعي، فلا يوجد بين المسلمين محروم وغيره يبيت في بيته شبعان لا يدري بحال أخيه المسلم.
نماذج عظيمة في الكرم والجود
كان سيدنا إبراهيم عليه السلام أول من استقبل ضيوفاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان أول من أضاف الضيف إبراهيم» (رواه البيهقي في شعب الإيمان، 6/ 395)، وقال المناوي: «كان إبراهيم يسمى أبا الضيفان»، وذكر قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (الذاريات: 24).
وكان الكرم سمة للعرب حتى قبل الإسلام، وكانوا يتفاضلون ويتباهون بالكرم والسخاء، ومما ضرب بهم المثل في الكرم حاتم الطائي(8)، فقد سأل رجلٌ حاتم الطائي فقال: يا حاتم، هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم يتيم من طيء، نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه، وأصلح من لحمه، وقدمه إليَّ، وكان فيما قدم إليَّ الدماغ، فتناولت منه فاستطبته، فقلت: طيب والله، فخرج من بيدي، وجعل يذبح رأساً، ويقدم إليَّ الدماغ وأنا لا أعلم، فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله! تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبة على العرب قبيحة، قيل: يا حاتم: فما الذي عوضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم، فقيل: أنت إذاً أكرم منه، فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملكه، وإنما جدت بقليل من كثير(9).
ومن كرماء العرب عبدالله بن جدعان، وقد ضرب به المثل كذلك في خصال الكرم والسخاء.
كرم النبي صلى الله عليه وسلم
لم يسبق النبيَّ صلى الله عليه وسلم أحدٌ في الكرم والجود، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فعن موسى بن أنس، عن أبيه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة، عنْ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسرَّني أَنْ لاَ تَمُرَّ علَيَّ ثَلاثُ لَيَالٍ وَعِندِي مِنْهُ شَيءٌ إلاَّ شَيءٌ أُرْصِدُه لِدَينٍ» (متفقٌ عليه).
نماذج من كرم الصحابة
وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، تنافس الصحابة على البذل والعطاء والكرم، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟»، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلي شيء أبداً. (رواه أبو داود، والترمذي).
ولمن أراد الاستزادة عن خلق الكرم، فليعد إن شاء لكتاب «موسوعة الأخلاق»(10).
____________________
(1) تاج العروس للزبيدي (7/ 784).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 230).
(3) تفسير القرآن العظيم (1/ 691).
(4) المرجع السابق (1/ 707).
(5) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري (4/ 357).
(6) المرجع السابق.
(7) الكرام والجود وسخاء النفوس للبرجلاني، ص 55.
(8) حاتم بن عبدالله بن سعد الطائي شاعر عربي نجدي وأمير قبيلة طيء النجدية، عاش في فترة ما قبل الإسلام في جبل طيء شمالي نجد، اشتهر بكرمه وأشعاره وجوده، ويقال: إنه أكرم العرب، ابنه عدي بن حاتم من صحابة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(9) المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي، ص 111.
(10) مرجع هذا المقال «موسوعة الأخلاق»، ج4، ص 27.