عبارة طالما استمع إليها المسلمون في أنحاء الأرض، فيستمعون ويتدبرون آيات الله عبر أثير إذاعات القرآن الكريم في أغلبية بلاد المسلمين: «برواية حفص عن عاصم يتلو علينا القارئ..»، تلك العبارة الأثيرة التي نستمع إليها دون أن يدري بعضنا من هو حفص؟ ومن هو عاصم؟ وما تلك القراءة التي يقرؤون بها؟ ومن أصَّل لها؟ ومن حافظ عليها إلى يومنا هذا؟
في السطور التالية، نتعرف على كتاب الله من زاوية أخرى، ذلك الكتاب الذي تولى الله تعالى حفظه، فقال في محكم آياته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، فسخَّر له رجاله.
وهنا نتعرف على الإمام عاصم صاحب تلك القراءة التي تلقتها الأمة بالقبول والانتشار في بلادها المختلفة.
هو الإمام عاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي، أحد القراء العشرة، من الطبقة الثالثة بعد الصحابة رضوان الله عليهم، ولد بالكوفة في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وغالباً ما ينتهي أي سند باسمه، وهو من كبار التابعين، وقد لقي بعضاً من الصحابة وأخذ عنهم(1).
قرأ على زر بن حبيش الذي أخذ عن الصحابي عبدالله بن مسعود، وقرأ على أبي عبدالرحمن حبيب السلمي الذي أخذ عن سيدنا علي بن أبي طالب، وقرأ على أبي عمرو سعد بن إياس الشيباني، فقد كان في السند بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان.
وقد سأله شعبة: لقد استوثقت لنفسك، أخذت القراءة من وجهين؟ (أي عبدالله بن مسعود، وعليّ بن أبي طالب)، قال: نعم، وهذا ما قاله لكل راو من رواته وتلاميذه(2).
كان يقرئ حفصاً بن سليمان الكوفي الأسدي بقراءة علي بن أبي طالب التي يرويها من طريق أبي عبدالرحمن حبيب السلمي، ويقرئ أبا بكر شعبة بن عياش بقراءة عبدالله بن مسعود من طريق زر بن حبيش، وكان حفص ربيبه؛ أي ابن زوجته؛ بمعنى أنه كان قريباً منه للتلقي، وعبدالرحمن بن حبيب السلمي الذي أخذ عند تابعي جليل وأحد القراء الذين أرسلهم سيدنا عثمان بن عفان ليعلموا الناس القرآن من الأمصار على المصحف الذي بعثه إليهم وجعله على لغة قريش.
مناقبه وصفاته
كان الإمام عاصم فصيحاً حسن الصوت، ومن أحسن الناس صوتاً، إلى جانب ما يتأدب به من خلق ونسك، فكان يمكث يوم الجمعة في المسجد إلى العصر عابداً خيراً كثير الصلاة، وكان من أعلم أهل الكوفة بالنحو، وكان رأساً في القرآن.
قال أبو هشام الرفاعي: كان عاصم ثبتاً في القراءة، صدوقاً في الحديث، وقد وثقه أبو زرعة وجماعة، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال سلمة: كان عاصم ذا أدب ونسك وفصاحة، وقال العجلي: عاصم صاحب سُنة وقراءة، وكان رأساً في القراءة، وقدِمَ البصرة فأقرأهم.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم فقال: رجل صالح خير ثقة، وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: عاصم الإمام الشاطبي:
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة أذاعوا فقد ضاعت شذى وقرنفلا
فأما أبو بكر وعاصم اسمه فشعبة راويه المبرز أفضلا
وذاك ابن عياش أبو بكر الرضا وحفص وبالإتقان كان مفضلا
تلاميذه ورواته
حدث عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو صالح السمان، وهما من شيوخه، وسليمان التيمي، وأبو عمرو بن العلاء، وشعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وشيبان النحوي، وأبان بن يزيد، وأبو عوانة، وأبو بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وعدد كثير.
وتصدر للإقراء مدة بالكوفة، فتلا عليه أبو بكر، وحفص بن سليمان، والمفضل بن محمد الضبي، وسليمان الأعمش، وأبو عمرو، وحماد بن شعيب، وأبان العطار، والحسن بن صالح، وحماد بن أبي زياد، ونعيم بن ميسرة وآخرون.
وانتهت إليه رئاسة الإقراء بعد أبي عبدالرحمن السلمي شيخه، قال أبو بكر بن عياش: لما هلك أبو عبدالرحمن، جلس عاصم يقرئ الناس، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، حتى كأن في حنجرته جلاجل(3).
أقوال العلماء فيه(4)
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم بن بَهْدلة فقال: رجل صالح خَيِّرٌ ثِقَة، فسألته: أيُّ القراءة أحبُّ إليك؟ قال: قراءة أهل المدينة، فإن لم تكن فقراءة عاصم(5)، وقال: سألتُ أبي عن حمَّاد بن أبي سليمان، وعاصم، فقال: عاصمُ أحبُّ إلينا، عاصم صاحب قرآن، وحمَّاد صاحب فقه.
وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: كان خَيِّراً ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث.
وقال محمد بن سعد: كان ثقة إلا أنَّه كثيرُ الخطأ في حديثه، وقال يحيى بن معين، والنسائي: ليس به بأس، وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وهو ثقة.
وقال أبو زُرعة الرازي: ثقة.
وقال العُقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ.
وقال الدَّارقُطني: في حفظه شيء.
وقال أبو حاتم الرازي: محله عندي محل الصدق، صالح الحديث، ولم يكن بذاك الحافظ(6).
وقال الذهبي: ليس حديثه بالكبير رحمه الله تعالى.
حدَّث عاصم عن أبي عبدالرحمن السلميِّ، وزِرِّ بن حبُيش، وغيرهما، وحدَّث عنه عطاء بن أبي رباح، وأبو صالح السمَّان، وهما من شيوخه، ومن كبار التابعين
سبب انتشار قراءة حفص عن عاصم
كان لكل إمام في القراءة تلميذان يأخذان عنه، وقد ترك الإمام عاصم الكوفي تلميذين؛ هما: شعبة، وحفص، لكن قراءة حفص هي التي انتشرت في بقاع المسلمين، واستحسنها الناس وذلك لسهولتها، إلا في بلاد المغرب التي اعتمدت قراءة ورش عن نافع، أيضاً إتقان حفص لتلك القراءة وتفرغه لها دون غيرها، والتركيز عليها بالكوفة، علاوة على اتصال السند بها وقربه من صحابة رسول الله صلى الله عليهم وسلم والتقاء إمامها عاصم ببعض الصحابة وقراءته عليهم، وتم تدوين المصحف بما يوافق هذه القراءة، كذلك كان أول تسجيل صوتي للقرآن كان بقراءة حفص عن عاصم مما سهلها في آذان الناس وساعد على إقبالهم عليها واستحسانهم إياها.
وفاته
توفي آخر سنة 129هـ، وهو الصحيح، كما قال ابن الجزري، وقيل: 128هـ، وقيل غير ذلك، واختلف في مكان وفاته، والأكثر أنه تُوفي في الكوفة، وقال الأهوازي: إنه توفي بالسَّمَاوَة من الشام ودُفن بها، قال أبو بكر بن عيَّاش: دخلت على عاصم وهو في الموت، فأُغمي عليه، فأفاق، فقرأ: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنعام: 62)(7).
________________
(1) معرفة القراء الكبار (1/ 88).
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي.
(3) المرجع السابق، ج5، ص257.
(4) معرفة القراء الكبار (1/ 93)، سير أعلام النبلاء (5/ 260).
(5) الجرح والتعديل.
(6) المرجع السابق.
(7) سير أعلام النبلاء للذهبي، ص29.