إن الله سبحانه وتعالى فرض الصيام على المؤمنين، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
وبعد أن فرض الصيام رخّص لغير المستطيع بسبب مرض أو سفر أن يفطر، لكنه ذكر في أعقاب تلك الرخصة أن من استطاع أن يصوم مع السفر أو المرض فهو خير له، حيث قال تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 184)، ففي الآية الكريمة إشارة إلى استحباب الصيام على الفطر، حتى وإن كان للمسلم رخصة في الإفطار، ويأتي هذا الاستحباب في مقام الوسيلة التربوية المعينة على تحمل المشاق وتقوية العزيمة وبناء الإرادة.
كما يسهم استحباب للصيام رغم وجود الرخصة في بناء الإرادة من خلال التأكيد على عدم اتخاذ الرخصة وسيلة للفرار من الواجبات، والهروب من الفرائض، بل يكون الصوم صورة من صور الرجولة المستعلنة والإرادة المستعلية(1).
مظاهر الإرادة التي يبنيها الصيام
إن الإرادة التي يبنيها الصيام في نفس المسلم تظهر فيما يأتي:
1- التربية على تحمل الصعوبات والتغلب على شهوات البطن والفرج؛ فالصائم يستطيع أن يمضي نهاره كله من غير طعام وشراب ونكاح، رغم توافر هذه الأشياء أمامه، لكنه يستطيع بإرادته القوية أن يتغلب عليها طوال النهار، مما يدل على استعلائه على مظاهر الإغراء والمتع اللحظية في سبيل الوصول إلى الهدف المرسوم.
2- القدرة على تحقيق الإنجاز؛ فالصائم يقضي الساعات الطوال في النهار من غير طعام وشراب حتى يحقق إنجاز صوم اليوم، وهو في الوقت نفسه يقضي الساعات الطوال في قراءة القرآن حتى يحقق إنجاز قراءة القدر المحدد له، ثم يأتي في المساء ليقضي الساعات في صلاة التراويح وقيام الليل، بالإضافة إلى إنجازاته في المحافظة على الصلوات في وقتها، إلى غير ذلك من الإنجازات اليومية للصائم.
3- القدرة على النطق بالحق والسكوت عن الباطل؛ فالصائم يمسك لسانه عن اللغو وقول الزور، حتى لا يضيع منه الثواب، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، وهنا يتبين أن الصائم يقوي إرادته حين يتحكم في كلامه، فلا ينطق إلا بالحق.
4- التحكم في النفس عند الغضب؛ فإن الصيام يربي إرادة الإنسان حين يأمره أن يمسك نفسه عند الغضب، فلا يتحدث بكلام قبيح أو يتجاوز في التعدي على الآخرين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، ففي هذا الحديث دلالة على قدرة الصائم على تحمل الأذى وتجاوز الأزمات حتى يحقق ما يريد وهو الوصول إلى ثواب الصيام.
ومن وسائل بناء الإرادة في شهر رمضان الحث على الجود والإنفاق في سبيل الله، فإن النفس بفطرتها تحب المال، قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر: 20)، وقال عز وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات: 8).
وإن الإسلام يعترف بهذه الفطرة ويُقَدّرها، لكنه لا يجعل حب الإنسان للمال متحكماً فيه ومقيداً له، ولهذا فإنه يدعوه إلى إنفاق جزء من هذا المال، لكي يربي نفسه على مواجهة الشهوات والملذات، كما يربيها على العطاء والبذل والتضحية بما يحب، في صورة رائعة من صور التربية على الإرادة القوية، ويضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المثال في ذلك، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
إنه يتصدق ويعطي الخير للناس، كما تعم الريح المرسلة كل من تأتي عليه، حتى تتربى النفس على قوة الإرادة التي تدفع إلى التخلي عن المال رغم الحب الشديد له.
من خلال ما سبق يتبين أن رمضان يغرس في نفس المؤمن قدرة وقوة وإرادة، يستطيع من خلالها أن ينتصر على الأقوال والأفعال والعادات التي ينبغي أن يتخلى عنها، كما تُمكّنه هذه الإرادة من التحلي بالأقوال والأفعال التي تقوده إلى الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة.
فما أجمل أن نغتنم هذا الشهر الكريم في التخلص من قبيح العادات وأسر الشهوات، كالتدخين ومطالعة السيئ من الشاشات، وغيرها من السلبيات، كما نأخذ منه قوة وعزيمة في التمسك بالإيجابيات وكسب الحسنات.
___________________
(1) من الطارق أنا رمضان: د. خالد أبو شادي، ص 38.