شهد العالم الإسلامي منذ مطلع القرن العشرين تدهورا وتشرذما بالغين؛ حيث أصيبت الأمة في ناحيتها السياسية بالاحتلال من جانب أعدائها، وبالحزبية والخصومة والفرقة من جانب أبنائها، وأصيبت فكريا بالفوضى والمروق والإلحاد؛ بهدم عقائدها وتحطيم المثل العليا في نفوس أبنائها.. في هذه الأجواء نشأت الحركةُ الإسلاميةُ الأم لمواجهة هذه التحديات التي أهاجت كوامن الشجن في قلوب الغيورين على دين الإسلام، المعتزين بإيمانهم، المؤملين في قدرة الإسلام على النهوض بالشعوب كمشروع حضاري عظيم يسع الأمة جميعًا، ويتسم بسلاسة العرض، وسهولة الأسلوب، وتقديم الدليل الشرعي، والتدرج في الخطوات، والبعد عن مواطن الخلاف، والإيمان العميق بشمول الإسلام لكل مناحي الإصلاح إلى نهاية الزمان.
مهمة المشروع وغايته وركائزه
تتمثل مهمة المشروع الحضاري للحركة الإسلامية في التصدي للمشروع المادي الذي أضيرت منه شعوبُنا الإسلامية ضررًا بالغًا، وإيجاد بديل له قائم على القيم والأخلاق، يتبع ذلك إصلاح شامل يشمل كل مجالات الحياة، تتعاون عليه الأمة جميعًا، وتتجه نحوه الأمة جميعًا، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل، بعدما جرفت مدنيةُ المادة وحضارة المتع والشهوات شعوبنا الإسلامية فأبعدتها عن زعامة النبي ﷺ وهداية القرآن، وحرمت العالم من أنوار هديها، وأخّرت تقدمه مئات السنين. أما ركائز هذا المشروع النهضوي الكبير فتقوم على ركائز الحضارة الإسلامية العامة المتمثلة في: الإيمان بالله تعالى بكل شعب الإيمان، والعلم بكل فروعه، الديني والمدني، والعمل الجيد المتقن، والجهاد في سبيل الله والاستعداد لردّ أي عدوان، والاجتهاد والتفنن لتحرير الإنسان من المخاوف والأوهام، وتأمين العيش الآمن والحياة الكريمة التي تليق بآدميته.
إمكانية النهوض
وإذا كان البعض قد أصابه الإحباط واليأس جرّاء الحال التي عليها المسلمون من الانحطاط والضعف؛ فإن القارئ الجيد للتاريخ يدرك أن ذلك قدر الله في الأمم؛ إذ لا يظل القوي قويًّا ولا الضعيف ضعيفًا أبد الآبدين، يقول الإمام «حسن البنّا» في ذلك: «إن نهضات الأمم جميعًا إنما بدأت على حال من الضعف يخيّل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضربٌ من المحال، ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح».. والواقع يشهد بحاجة العالم الملحّة إلى نظام إنساني عادل، فلا يزال منتظرًا من ينقذه من حالة التيه والضياع التي يحياها منذ قرون، ولا منقذ له سوى الإسلام، وإننا، نحن المسلمين، يجب أن ننتهز الفرص ونستثمر الأحداث لصالحنا، ولا نستكثر أن نقود الدنيا يومًا وقد قدناها من قبل قرونًا، بل العالم في انتظار دعوة الهداية لتخلصه مما هو فيه من آلام.
مستلزمات المشروع
وفي سبيل إعداد المشروع والانطلاق به يلزم عدة أمور مهمة، على رأسها الإرادة والوفاء والتضحية؛ إذ تنجح الفكرة إذا قوي الإيمانُ بها، وتوفّر الإخلاصُ في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها؛ لذا كان إعداد الرجال الذين يحملون هذا العبء هو المحطة الأولى من محطات المشروع؛ إذ إن نجاح المشروع مرتبطٌ بالنجاح أولًا في إنتاج الرجال الذين يليقون به، فالرجل سرُّ حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تُقاس بخصوصيتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة. من أجل ذلك يلزم إنشاء محاضن لتربية هؤلاء الرجال، والهدف الأساسي من تلك المحاضن هو تكوين جيل رشيد، وتعبئته لحمل واجب نشر المشروع وتبليغ فكرته، ولتجهيزه جاهزية معنوية، وذهنية ومادية.
معالم التجديد في المشروع
– المشروع إسلامي صميم: مرجعيته الكتاب والسنة وما اتفقت عليه الأمة، فهو إذًا بضاعة الإسلام ونظامه وجماع أحكامه.
– الإسلام الشامل وليس المجزأ: أي ليس هو الإسلام الذي يعالج ناحية ويدعُ نواحيَ، بل هو إسلام العزيمة، إسلام الصحابة والسلف الكريم ومن حملوا رايته من بعدهم.
الوسطية الجامعة بين النظرين الشرعي والعقلي: لنفي التقليد والخروج من حالة الجمود التي عمّت العالم الإسلامي؛ ولحسم الجدل الدائر بين فريقين يرى كلٌّ منهما أنه أصحُّ من الآخر.
– مشروع عالمي: هو مشروع الدنيا كلها، والعالم بأجمعه، فهو ليس حِكرًا على المسلمين دون غيرهم، بل مشروع الإسلام الذي ارتضاه الله للناس كافة، نورًا وهداية ورحمة للعالمين.
– اعتماد العلمية والعقلانية: يعتمد المشروع العلم والعقل متكئًا يقوم عليهما، فلا يعترف بالارتجالية أو العشوائية، بل يعترف بالعلم فريضة من فرائضه، وبالعقل هاديًا ودليلًا إلى كلِّ برٍّ وخير.
– الاستقلالية وعدم التبعية: فهو عودة إلى المنبع، واتباع لسلف صالح وجدود أوفياء لم يرضوا لأنفسهم بغير العزة والكرامة، وقد نفوا عن أتباع دينهم شُبَه المذلّة والتبعية للآخرين.
– تخليص الأمة من قيودها السياسية: وهذه الاستقلالية تقتضي فك القيود السياسية التي تكبّل الأمة، والجهاد لحريتها، والسعي لبنائها من جديد على قواعد ونظم الإسلام.
– إرساء العدل الاجتماعي وإرشاد المجتمع: وهو جانب من جوانب عدة تأسّس لها المشروع، وقد أنزلته الحركة منزل التطبيق في أشكال مؤسسية مختلفة قامت بدور ملموس في مجتمعاتها.
– الإصلاح الاقتصادي والتقريب بين الطبقات: وهو أيضًا من الجوانب التطبيقية للمشروع، التي تحققت في المجتمعات رغم العقبات العديدة.
– مواكبة المستجدات: يدعو المشروع إلى الأخذ بكل مستجدٍّ مشروع غير محرم ولا مكروه، ولو كان من خصم، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقُّ بها.
– العمل لاستعادة الخلافة التي تقود لأستاذية العالم: في رؤية الحركة، ضرورة السعي لاستعادة الخلافة، باعتبارها شعيرة إسلامية، وكيانًا دوليًّا لأمة الإسلام.
– الدولة الإسلامية فريضة: ولا يزال المسلمون ضائعين، كالأيتام على موائد اللئام، ما لم تقم لهم دولة، ترعى مصالح دينهم ودنياهم، وما لم يسعوا لإقامتها فقد أثموا جميعًا.
– والحكومة ركنٌ من أركان المشروع: ولا يمكن لمشروع جامع كهذا أن يُطبّق على أرض الواقع إلا بقوة تنفيذ ترعاه، وهي سلطة الحكومة.
– حقُّ الشعوب في محاسبة الحكام: يرى المشروع الشعوبَ أعلى مكانة من الحاكم، وهي القيِّمة عليه؛ تراقبه وتحاسبه وتشير عليه، وليس له سوى الاستجابة لإرادتها وتنفيذ رغباتها، وهذا حكم الإسلام ورأي السماء.
– التعاون في المُتفق عليه: أسَّس المشروع لقاعدة جليلة لحسم الخلافات الفقهية بين العلماء، ولقطع الجدل بين الهيئات والجماعات، والتي أضاعت الكثير من جهد ووقت الأمة، بل جعلتها شيعًا وأحزابًا.
– الموقف من المواطنة والعروبة: أقرّ المشروع المواطنة بشكلها الحديث وعناصرها المعروفة، وهو مبدأ الإسلام ورأيه الثابت، كما أقرّ بحق العرب والعروبة، وهم وعاء الإسلام وأهله.
– رؤية جديدة للأقليات والسياسة الخارجية: ولم يأت المشروع خُلوًّا من رؤية حول التعامل مع الأقليات في الداخل، والتعاون مع العالم في الخارج، وهو تعاونٌ مبنيٌّ بالأساس على ركائز الحقوق الإنسانية التي احتضنها الإسلام.
________________________
كاتب صحفي وباحث مصري.