لا أذكر على سبيل الدقة التامة الكاملة أو التفاصيل الدقيقة، اللحظة الأولى التي تناهى فيها إلى مسمعي اسم المفكر والمنظر والمربي الكبير الشيخ الأستاذ محمد قطب، رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته؛ لكنني عندما أجتهد في نبش تلافيف ذاكرتي اليوم، أرجّح بأن ذلك حصل في ربيع عام 1980م، حيث كنتُ يومئذ تلميذاً بثانوية «مالك بن نبي»، أكبر وأعرق ثانويات مدينة تبسة في أقصى الشرق الجزائري.
ففي ربيع ذلك العام، اجتهد بعض الطلبة الجادين الملتزمين الذين كانوا يتمتعون بأخلاق إسلامية عالية، في تنظيم معرض صغير للكتاب، كان الأمر بالنسبة لنا مفاجأة سارة، ومنطلقاً للالتفات إلى عالم الفكر والأدب والثقافة.. ربما كان ذلك الحدث، أول محطة سمعتُ فيها باسم أ. محمد قطب، وأغلبُ الظن أنني سمعت باسم شقيقه الأكبر أ. سيد قطب قبله بفترة قصيرة، لأنني قرأت خلال تلك الأيام -وأنا على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية- كتابه الذي تناول فيه سيرته الذاتية إبان مرحلة الطفولة واليفاعة وجعل عنوانه «طفل من القرية»، ولا يمكن أن أنسى ذلكم الأثر العميق الذي تركه هذا الكتاب في نفسي ووجداني.
النشاط الطلابي الدعوي.. وحضور قطب
في خضمّ النشاط الطلابي إبان أوج فورة الصحوة الإسلامية والإقبال على مؤلفات رموز وأعلام الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر خلال تلك الفترة، طلبتُ من الصديـق كمال غلاب، رحمه الله تعالى، وكان شعلة متقدة في مجال النشاط الطلابي الدعوي وتقريب الفكرة الإسلامية إلى تلاميذ ثانوية مالك بن نبي، أن يعيرني ما توافر لديه من مؤلفات هذين الشقيقين، فاستجاب مشكوراً، وما زلتُ أتذكر قراءتي لكتاب قطب «قبسات من الرسول» الذي قرأته بعد قراءة كتاب شقيقه سيد «طفل من القرية».
خرجتُ من تلك القراءة بانطباع استقرّ في نفسي، مفاده أنني بإزاء كاتب متفرّد حقاً في أسلوبه وطرحه ومعالجته للأفكار، ورغم أن هذا الكتاب يتناول مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة من صحيح السُّنة المطهرة، فإن طريقة تحليله لمضامين تلك الأحاديث الشريفة وإسقاطها على واقع المسلمين وربطها بالأحداث والوقائع والسياقات المستجدة في حياة المجتمعات الإسلامية، توحي للقارئ بمنهج فكري بديع، يتميز عن أساليب الكتب القديمة التي شرحت الأحاديث النبوية، لكن بطريقة مجردة، ليس لها علاقة بواقع المسلمين، إلا إذا كان القارئ يتمتع بمهارة إسقاط الأفكار على الواقع.
وكان في وسط مدينة تبسة مكتبة اسمها «مكتبة حاتي»، عَرضتْ في واجهتها الزجاجية معظم مؤلفات الشقيقين؛ سيد، ومحمد، وكتبت تنبيهاً يفيد بأنّ تلك الكتب ليست للبيع، لكن مع ذلك كانت بالنسبة لنا نحن تلاميذ الثانوية فرصة لها قيمتها، فكنا نمر أمام واجهة تلك المكتبة وندوّن على النوتة عناوين مؤلفات الشقيقين بعناية واهتمام، كي نحفظها وتستقر في عقولنا.
وبعد بلوغي مرحلة الدراسة الجامعية، ألفيتُ الوقت والظروف المناسبة للاطلاع والتعرّف على فكر أ. قطب، خاصة أنّ مكتبة مسجد الطلبة في جامعة عنابة كانت مكتبة ثرّة مترعة بالمجلات الإسلامية وكتب أعلام الدعوة والفكر الإسلامي المعاصر.
رحلة قراءة كتبه
كانت بداية اللقاء في هذه المرحلة مع كتاب «مفاهيم ينبغي أن تُصحّح»، وفي تقديري أنّ هذا الكتاب له فرادة خاصة في رفد التصوّر الإسلامي بالمفاهيم والرؤى الصحيحة، وكان منهج المؤلف يتمثل في عرض فكرة معيّنة كما هي في أذهان معظم الناس، ثمّ يكرُّ عليها برؤيته النقدية الثاقبة، حتى يُزيح المفهوم الخاطئ ويُثبّت المفهوم الصحيح المدعوم بالأدلة والبراهين ولا يغادره إلى مفهوم فكرة أخرى حتى يجعله مفهوماً إسلامياً رائقاً خالصاً.
وبعد هذا الكتاب قرأتُ له كتاباً آخر هو «الإنسان بين المادية والإسلام»، وعلمتُ فيما بعد بأنه أول كتابه ألفه أ. قطب، وفي هذا الكتاب يستعرض نظرية داروين في التطور كما يستعرض أثرها في الفكر المادي الغربي بشقيه الليبيرالي والشيوعي، ثم يعمل فيها مشرط النطاسي الخبير بالعقائد والأفكار والاتجاهات والمنازع، فإذا هي هباء قد تطاير.
ثم يعالج بعد ذلك قضية العلاقة بين الفرد والمجتمع، ويقارن منزلة هذه المسألة بين الأنظمة الوضعية الغربية والإسلام، لينتهي بأنّ هذه المعادلة بمكوّناتها الصحيحة وبدلالتها الرسالية الاستخلافية لا توجد سوى في المنهج الإسلامي.
قرأت بعد ذلك أشهر وأهم مؤلفاته، مثل: «منهج الفن الإسلامي»، «جاهلية القرن العشرين»، «هل نحن مسلمون»، «واقعنا المعاصر»، «شبهات حول الإسلام»، «معركة التقاليد»، «دراسات في النفس الإنسانية»، «التطور والثبات في حياة البشرية»، «دراسات قرآنية»، «منهـج التربية الإسلامية» (جزءان).. إلخ.
ومن الجدير ذكره أن أ. قطب هو رابع الأشقاء (سيد، أمينة، حميدة) وقد كتبوا كتاباً مشتركاً بينهم أسموه «الأطياف الأربعة»، وقد لد في قرية موشا محافظة أسيوط بصعيد مصر عام 1919م، وتوفي يوم 4 أبريل 2014م، بمستشفى المركز الطبي الدولي بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية.
ويذكر، رحمه الله، في بعض كتاباته أنّ أكثر 3 أشخاص أثروا في أسلوبه الكتابي الأديب عباس محمود العقاد، والأديب إبراهيم عبدالقادر المازني، وشقيقه الأديب سيد قطب، رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فراديس جنانه.
اليوم تمر 10 أعوام على رحيله عن هذه الدنيا الفانية، بعد أن عاش 94 عاماً، مليئة بالجهاد العلمي والفكري والثقافي، وقد ترك بصمة في الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية لها فرادتها وتميّزها وثراؤها ودلالاتها العميقة، ومن واجب المثقفين والدعاة في العالم الإسلامي أن يقدّروا ما قدمه الأستاذ المفكر الشيخ محمد قطب، وأن يدرسوا تراثه العلمي والفكري ويستخرجوا منه الخلاصات التي تنفع الحياة الإسلامية المعاصرة في جميع المجالات والأصعدة، وفي مقدمتها المجال التربوي والدعوي والفكري.