إن لكل أمة حية رموزًا تفخر بهم على مر الأزمان، تركوا أثرًا في تاريخ أمتهم، وتربت أجيال على أفكارهم.
وهذه الرموز قد يكونون من المجددين الذين يبعثهم الله لتجديد أمر الدين عند الناس بعد أن خالطه بعض ما يذهب صفاء ورونقه.
ومن هؤلاء المجددين الإمام عبدالحميد بن باديس (1307 – 1358هـ/ 1889 – 1940م)، الذي بعثه الله في الأمة الجزائرية لينير لها طريقها نحو الحرية والاستقلال.
وقد اعتبره المفكر العظيم مالك بن نبي باعث الأمة فقال: «لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات ابن باديس، فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويا لها من يقظة جميلة مباركة، يقظ شعب ما زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم، فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب»(1).
ولقد عاش ابن باديس ومات في ظلال الاحتلال الفرنسي القاهر؛ الذي حاول طمس العقيدة، ومسخ الهوية، وتغيير اللسان.
لكن بعثه الله تعالى ليكون معولاً من معاول هدم ما حاول الاستدمار الفرنسي إيجاده في الجزائر، وتبر ما علته فرنسا تتبيرًا، وكان ثمرة ذلك الاستقلال الذي لم يشهده الإمام ابن باديس.
وكان أساس المشروع النهضوي عند الإمام ابن باديس القرآن الكريم الذي من خلال فهمه الصحيح تصحح العقائد وتزول الشبهات وتنصلح الأخلاق.
ولم يكن ابن باديس رجل كلمات يلقيها أو يكتبها ثم يمضي إلى حال سبيله، بل جمع بين الأقوال والأفعال؛ فأسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي جمعت خيرة العلماء الذين ساحوا في البلاد ينشرون أنوار العلم، ويبددون ظلمات الجهل، ويحررون العقول، ويحيون الضمائر.
وأول محور من مشروعه النهضوي يقوم على تنقية العقيدة الإسلامية مما شابها من غبش بالرجوع إلى القرآن الكريم الذي يصلح ما فسد من عقائد الدين، وفي سبيل هذا شن حربًا على الطرق الصوفية؛ فقال: «حاربنا الطرقية لما عرفنا فيها -علم الله- من البلاء على الأمة من الداخل ومن الخارج، فعملنا على كشفها وهدمها مهما تحملنا في ذلك من الصعاب، وقد بلغنا غايتنا والحمد لله، وقد عزمنا على أن نترك أمرها للأمة، ثم نمد يدنا لمن كان على بقية من نسبته إليها لنعمل معًا في ميادين الحياة على شريطة واحدة وهي: أن لا يكونوا آلة مسخرة في يد نواح اعتادت تسخيرهم، فكل طرقي مستقل في نفسه عن التسخير، فنحن نمد يدنا له للعمل في الصالح العام»(2).
ثم محور الأخلاق؛ فبها تتضح الهوية الإسلامية، وتنصلح الأعمال؛ فقال عند تفسيره للآية: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 84): «انبناء الأعمال على العقائد والأخلاق، فإن الآية وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين ثم لأمثالهم من الكافرين، فإنها تفيد أن كل واحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته التي هي خلقه وطبيعته.
ونأخذ من هذا أن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق؛ فالباطن أساس الظاهر، وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله»(3).
ثم محور التعليم؛ إذ به تنشأ الأجيال وعندها الوعي بالذات أولاً، ثم معرفة كيفية التفرقة بين العدو والصديق، ثم مجابهة الواقع بأزماته ومستجداته؛ فيقول: «لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم؛ فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره»(4).
ويأتي بعد ذلك محور الأمة، الذي حارب من خلاله المحاولات المستميتة للاحتلال في الإيقاع بين أبناء الوطن الواحدة والتفرقة بين العرب والبربر؛ حيث جعل الانتساب إلى الإسلام هو أعلى شرف، ثم إن العرقيات قد امتزجت على طول القرون المتعاقبة في بوتقة واحدة؛ لذا قال كلماته التي خلدها الشعب:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجًا له رام المحال من الطلب
فالأمة هنا لها أكثر من دائرة؛ فالدائرة الأولى هي الأمة الجزائرية، ثم الدائرة الثانية وهي الأمة العربية بآلامها وآمالها؛ لذا كانت فلسطين حاضرة بقوة في فكره، وعبر عن ذلك بقلمه، وهاجم الإنجليز والصهاينة، ثم تأتي الدائرة الأوسع وهي الأمة الإسلامية، وقد عالجها وتطرق لها، وتجلت في حديثه عن الخلافة وسقوطها، وقد كان له رأي دافع من خلاله عن مصطفى كمال أتاتورك، ولم يكن مع الداعين لإقامة الخلافة بعد سقوطها؛ إذ رأي أن الأمة لم تتحرر بعد من سطوة الاحتلال؛ فكيف يستقل قرارها وتتحد لإقامة الخلافة من جديد؟!
ثم نقف على محور اللغة؛ حيث عملت فرنسا على محاربة اللغة العربية، وفرنسة اللسان، وطالما أن مشروعه الإصلاحي يقوم على القرآن الكريم، فيجب الحفاظ على لغته التي نزل بها؛ ليحسن الفهم عن الله ورسوله، ثم إن اللغة العربية عنوان من عناوين الهوية للشعب الجزائري، لذا فقد قال ابن باديس: «إن كل محاولة لحمل الجزائريين على ترك جنسهم، أو لغتهم، أو دينهم، أو تاريخهم، أو شيء من مقوماتهم، فهي محاولة فاشلة مقضي عليها بالخيبة، والواقع دل على هذا»(5).
وأخيرًا يأتي محور الحرية، التي ليست منَّة من أحد على الشعب والأفراد، بل هي حق له مثلها مثل حقه في الحياة، ويندرج تحت هذا المحور التحرر من الاستعمار والتبعية، وحرية الأمة في اختيار من يحكمها ومراقبته بل وعزله إن حاد عن الطريق، فيقول: «حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته كالمتعدي عليه في شيء من حياته»(6).
ويقول: «إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وليس من العسير أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة استقلالاً واسعًا تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحر على الحر»(7).
ويقول: «ما الولاة إلا منفذون لإرادتها؛ فهي تطيع القانون؛ لأنه قانونها، لا لأن سلطة أخرى لفرد أو لجماعة فرضته عليها، كائنًا من كان ذلك الفرد، وكائنة من كانت تلك الجماعة، فتشعر بأنها حرة في تصرفاتها، وأنها تسير نفسها بنفسها، وأنها ليست ملكًا لغيرها من الناس»(8).
فهذه بعض معالم المشروع النهضوي عند ابن باديس، وهو بحر واسع خضم، ومجدد لم يأخذ صيته في الشرق بالبحث والدراسة والاهتمام رغم أنه توفي منذ عقود، فليت المشارقة يهتمون بمفكري المغرب العربي اهتمام أهل المغرب العربي بمفكري المشرق.
_______________________
(1) شروط النهضة، ص24.
(2) آثار ابن باديس، مج2، ج2، ص369.
(3) السابق، مج1، ص339.
(4) السابق، مج2، ج1، ص217.
(5) السابق، مج2، ج1، ص355.
(6) السابق، مج2، ج1، ص480.
(7) السابق، مج2، ج1، ص320-321 باختصار.
(8) السابق، مج2، ج1، ص403.