تقف الشعوب المسلمة اليوم على مسلَّمة تجمع عليها، هي أن دورة الزمن توشك أن تتغير، وإنهم يثقون يقيناً من عودتهم لقيادة الأمم، وقد صاروا اليوم في ذيلها.
وقيادة الأمم بالحق رسم لها القرآن منهجاً، ووضع لها سبلاً لا بد من أخذها، فإن اجتماع الناس على الرسالة كان له أسباب بينتها آيات الكتاب العزيز، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159)، فالذي جمع الناس حول الدعوة لم يكن الحق الذي تضمنته فقط، بل أخلاق القائم بها صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو أساس اجتماع الناس وقبولهم لرسالته.
والقرآن تبدأ آياته البينات بأن الله هو الرحمن الرحيم، وقيمة الرحمة هو ما تواصى به المسلمون عبر التاريخ، فتوارثوا في لقيا التلميذ بشيخه أول مرة، أن يكون أول ما يسمعه منه: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»(1)، وهو الحديث المسلسل بالأولية، فالتراحم قبل التعليم والتلقي.
الإسلام مكَّن لأخلاق الدولة فكان القادة يقدمون القيم على كل المغانم
المؤاخاة أول الطريق
كان من أول ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين هاجر، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة تحمل في طياتها كل معاني الأخلاق والقيم، كالرحمة والإيثار والشفقة، ولما أتى إليه عبدالله بن سلام، وكان حبراً يهودياً ليستبين الأمر، قال: لما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»(2)، وبتلك الأخلاق بدأ مجتمع المدينة.
القيم العليا وأخلاق الدولة
في مجلس ضم الصحابي الجليل عمرو بن العاص قال المستورد القرشي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»، فقال عمرو له: أبصر ما تقول، فقال له: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو: إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين، ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك(3).
الحضارة التالدة تتحول إلى صحراء بائدة بتخلي أصحابها عن القيم وانتهاج الفساد
فذكر عمرو الحلم والأناة، والعطف على المسكين والضعيف واليتيم، والعدل، وهي قيم عظمى، ضمنت لأهلها بقاء استثنائياً.
لقد مكن الإسلام لأخلاق الدولة، فكان القادة يقدمون القيم على كل المغانم، فالمغانم لا تساوي شيئاً أمام خسارة الأخلاق، لقد رد أبو عبيدة على أهل حمص النصارى ما أخذه منهم مقابل الصلح والحماية، لما لم يف لهم بما عاهدهم عليه(4).
وهكذا كانت أخلاق الدولة المنبثقة من قيم الإسلام، هي التي تحكم تصرفات القادة، فالوفاء للمخالف كان أساساً مكيناً، لا يجوز الالتفاف عليه.
ولم تتخل الدولة عن قيمة العدل، حتى ولو كان ثمن إقامته ردة يرتدها من وجب عليه قصاص نافذ، فقد لطم جبلة بن الأيهم في الحرم رجلاً فهشم أنفه، فطلب الرجل القصاص منه، فألزمه الفاروق عمر رضي الله عنه بذلك، فأنف جبلة أنفة شديدة، حيث كان ملكاً في قومه، فكيف يقتص منه لرجل من العامة؟! ولما لم يجد فكاكاً من القصاص، خرج من الحرم ليلاً مرتداً عن الإسلام.
وكان بوسع عمر أن يتجاوز عن الرجل ويستبقيه في الإسلام رعاية لمكانته، لكن خسارة رجل لا خسارة قيمة عليا حث عليها الإسلام.
التوحيد أساس الأخلاق
تعود الأخلاق إلى كلمة التوحيد، وقد اعتدلت بالتوحيد أخلاق عرب الجاهلية، وجاء فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(5)، فاستخرج بالتوحيد من نفوسهم كريم الخلال، فصاروا جيلاً فريداً، في ممارساته، وفي فتوحاته وضربه في الأرض.
أي نظام يبغي الاستخلاف لا بد أن يضع الأخلاق وبناء النفوس ضرورة أولية
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الأشعريين بقوله: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»(6)، لقد امتدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تراحموا فيما بينهم، وبما آثر من يملك من لا يملك، وتلك خلة كانوا عليها وافقت ما صاروا إليه من التوحيد والإسلام.
حديث القرآن عمن نبذ القيم والأخلاق
إن القرآن الكريم ذكر بعض ما حدث لأرباب الحضارات الفاسدة، التي دارت عليها عاديات الأيام، ونالت منها السنن الإلهية، كقوم عاد، وثمود، وفرعون، وكلهم من أصحاب العمران المدهش والحضارة العامرة، لكنها خلت من القيم، فكانت النتيجة: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر: 13)، وهكذا تتحول الحضارة التالدة إلى صحراء بائدة، بتخلي أصحابها عن القيم وانتهاج الفساد.
ومن نظر فيما خلَّفه الفراعين لأدهشته حضارتهم، التي بادت، وصارت عبرة في التاريخ على من علا بغير الحق، وأظهر الفساد في الأرض.
ضرورة لا بد منها
إن أي نظام يبغي عمارة الأرض وتحقيق الاستخلاف والشهود الحضاري، لا بد أن يضع الأخلاق وبناء النفوس ضرورة أولية، ولقد وصف الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأميز ما كان فيهم من الأخلاق التي مكنت لدعوتهم في الأرض، حيث كانوا رحماء فيما بينهم، بل سبق التراحم الحديث عن عبادتهم، مع ضرورة الأمرين معاً، ومما منَّ الله على عباده ما ذكره من قوله: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران: 164)، فتزكيتهم سبقت تعليمهم الكتاب والحكمة.
مهما كانت العداوة فلا بد من العدل ومهما كان سمو الحجة فلا بد من الرحمة
وهكذا ترتسم خطا دعاة الإصلاح، وإحياء النفوس، أن التزكية ليست نافلة في الدعوة، بل ركيزة من ركائزها وعنصر من عناصرها المكينة.
إن الدعوات الكبرى التي تؤسس لما ينفع الناس لا تنجح إلا بالتمكين للقيم، ومهما كان سمو الأفكار، ووضوح الحجة، فتبقى الأخلاق الأساس في التمكين للدعوة، وكل دعوة تجافي الأخلاق فهي من الزبد الذي يذهب جفاء.
لقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة إلى خيبر ليقسم الثمر بينه وبين اليهود، فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك، وخفف عنا، وتجاوز في القسم، فقال لهم: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سُحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض(7).
فمهما كان أمر العداوة فلا بد من العدل، ومهما كان سمو الحجة، فلا بد من الرحمة، ومهما كان وضوح الحق، فلا بد من اللين في عرضه.
هكذا تكون الدعوات بالقيم العليا كالمطر الذي ينزل على الأرض، فتنبت من كل زوج بهيج، بعدما كانت هامدة.
_________________________
(1) صحيح، أخرجه الترمذي.
(2) صحيح، أخرجه ابن ماجه.
(3) أخرجه مسلم.
(4) الاكتفاء (2/ 253).
(5) الموطأ.
(6) متفق عليه.
(7) أخرجه في الموطأ.