ترجع المسألة اليهودية في أوروبا إلى عدة أسباب، من أهمها -في تصوُّرنا- وضع الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية باعتبارها جماعات وظيفية لم يَعُد لها دور تؤديه، وهو الأمر الذي يُفسِّر ظهور كل من المسألة اليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي طُرحت باعتبارها حلاًّ لها، وهو حل يفترض أن الجماعات اليهودية عنصر حركي عضوي مستقل بذاته غير متجذر في الحضارة الغربية، يستحق البقاء داخلها إن كان نافعاً يؤدي الوظيفة الموكلة إليه، فإن انتهى هذا النفع وجب التخلص منه (عن طريق نقله خارجها).
والواقع أن عملية النقل تحل المشكلة لأنها تتضمن خلق وظيفة جديدة له، وهذا هو الإطار الذي يدور في نطاقه وعد (أو عقد أو ميثاق) بلفور، أهم حدث في تاريخ الصهيونية، فهو يطرح حلاً لمسألة الجماعة الوظيفية اليهودية التي لم يَعُد لها نفع داخل الحضارة الغربية وأصبح أعضاؤها فائضاً بشرياً يهودياً لا وظيفة له.
وقد أدرك الفكر الصهيوني بين اليهود (بشكل جنيني) وضع الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية، فأشار هرتزل، وبنسكر إلى اليهود كأشباح وطفيليين، ووصفهم نوردو (وهتلر من بعده) بأنهم مثل البكتريا.
وكل هذه الصور المجازية هي محاولة لوصف هذا الكيان الذي يوجد في المجتمع دون أن يكون منه، يتحرك فيه دون أن يضرب فيه جذوراً، وهو كيان أساسي لإتمام كثير من العمليات دون أن يكون جزءاً من الجسم الاجتماعي نفسه، وحديث هرتزل عن اليهود باعتبارهم «أقلية أزلية»، وكذلك حديث بوروخوف عن «الهرم الإنتاجي المقلوب»، هو في صميمه حديث عن الجماعات الوظيفية دون استخدام المصطلح بطبيعة الحال.
وقد قام الصهاينة من اليهود (وخصوصاً الصهاينة العماليين) بتهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وتقديم قراءة يهودية للحقيقة التاريخية التي تستند إليها (أي اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية)، فوصفوا وضع اليهود الوظيفي بأنه مرض لا بد من علاجه، فاليهود حسب هذا التصور شعب عضوي متكامل (شعب مثل كل الشعوب في الصيغة العلمانية، وشعب مقدَّس في الصيغة الدينية)، وقد تَبعثَّر هذا الشعب فيما بعد وتَشتَّت وتَحوَّل إلى شعب في المنفى؛ جماعات متناثرة ذات وظيفة محدَّدة؛ هذه الوظيفة هي الاقتراض والربا في المنظومة الصهيونية العمالية، وهي وظيفة الشعب الشاهد في المنظومة الصهيونية الدينية (المسيحية أو اليهودية)، وقد نجم عن ذلك تَشوُّه هذا الشعب.
ويأخذ هذا التشوه شكل الهرم الإنتاجي اليهودي المُشوَّه أو المقلوب في المنظومة العمالية، حيث يُفترَض أن اليهود، حينما كانوا شعباً، كان لهم هرمهم الإنتاجي السوي، بحيث يشغلون كل درجات الهرم الإنتاجي، ولكنهم، بتشتُّتهم، أصبحوا يتركزون في قمة الهرم وحسب (أما الإثنيون فيرون أن مصدر التشوه فشل الشعب في الحفاظ على هويته الإثنية الدينية أو الإثنية العلمانية).
وانطلاقاً من هذا الافتراض، يطرح الصهاينة أمنية أن تتحول هذه الجماعات الوظيفية إلى شعب مرة أخرى، وهذا ما عبَّر عنه هرتزل بحديثه عن تحويل اليهود من طبقة إلى أمة، وما عبَّر عنه بوروخوف بقوله: إن اليهود سيصبحون شعباً تشغل طبقاته قمة الهرم ووسطه وقاعدته، فيقف الهرم على قاعدته لا على رأسه، وما عبَّر عنه كوك بقوله: إن الوحي الإلهي (والدائرة الحلولية) لا تكتمل إلا بعودة الشعب اليهودي إلى أرضه، ولكن كل هذا لا يتم إلا بحصول اليهود على أرض مستقلة يؤسسون فيها دولة قومية، وتأسيس دولة «إسرائيل»، من ثم، هو تحقيق لهذه الرؤية.
هذا هو التصوُّر الصهيوني أو الديباجة الصهيونية، ولكن ما حدث بالفعل هو أن التشكيل الاستعماري الغربي قد جَمَع بعض «المنفيين» الذين هم في واقع الأمر أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية التي فَقَدت وظائفها وتحوَّلت إلى فائض بشري، وهي جماعات كانت تضطلع بمهام عديدة من أهمها الأعمال المالية (التجارية والربوية) في مجتمعات مختلفة.
وقد قام هذا التشكيل الاستعماري بنقل أعضاء هذا الفائض إلى فلسطين وتحويله إلى جماعة وظيفية واحدة تأخذ شكل دولة تضطلع بدور أساسي؛ الاستيطان والقتال، وهو دور نَصفه بـ«الدور المملوكي»، فالمماليك جماعة وظيفية تم استيرادها إلى الشرق العربي للاضطلاع بدور القتال.
ويمكن هنا أن نطرح سؤلاً: لمَ لجأ الغرب إلى آلية الدولة الوظيفية لتحقيق أهدافه، وذلك بدلاً من الآلية الأكثر شيوعاً، أي آلية الجماعة الوظيفية؟ ولمَ لمْ يُوطِّن الاستعمار الغربي اليهود في فلسطين ليقوموا بدور الجماعة الوظيفية القتالية التي تعمل تحت إشرافه ولصالحه بشكل مباشر كما فعل الفرس والهيلينيون من قبل حيث وظفوا الجماعات اليهودية بهذا الشكل؟
هناك مركب من الأسباب لتفسير هذه الظاهرة، ولعل أهمها هو طبيعة المجتمعات في العصر الحديث حيث تغلغلت فيها مُثُل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي مجتمعات تربطها وسائل الاتصال الحديثة (من صحافة وتلفزيون ووسائل مواصلات واتصال) تجعل الاحتفاظ بطبقة منعزلة حضارياً، ومتميِّزة وظيفياً وطبقياً، أمراً عسيراً، بل مستحيلاً.
ولكن إذا شكلت هذه الطبقة دولة قومية مستقلة، فيمكنها حينذاك أن تحتفظ بعزلتها وتَميُّزها بسهولة ويُسر، كما يمكن تسويغ وجودها وحقها في البقاء باللجوء إلى ديباجة حديثة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني «حركة تَحرُّر وطني»، ويتخذ اغتصاب فلسطين اسم «إعلان استقلال إسرائيل»، ويصبح الدور القتالي «دفاعاً مشروعاً عن النفس»، وتتخذ قوات الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وتصبح العزلة هي «الهوية»، وتصبح لغة المحاربين لا التركية أو الشركسية (كما هي الحال مع المماليك) وإنما العبرية، وهي لغة أهم كتب العالم الغربي المقدَّسة.
ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية القتالية لا في «جيتو» خاص بهم أو ثكنات عسكرية مقصورة عليهم، وإنما داخل الدولة/ الشتتل/القلعة، ويستمرون في تعميق هويتهم (أي عزلتهم) وفي القتل والقتال نظير المال والمكافآت الاقتصادية وغير الاقتصادية السخية، متخفين خلف أكثر الديباجات رقياً وحداثة.
لكل هذا، لجأ العالم الغربي لصيغة الدولة الوظيفية الاستيطانية القتالية (المملوكية) وذلك بدلاً من الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية، وهذا هو الترجمة الدقيقة للشعار الصهيوني: تحويل اليهود من طبقة (أي جماعة وظيفية) إلى أمة (أي دولة وظيفية).
ويذهب المفكرون الصهاينة إلى أن حل المسألة اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي مسألة مستحيلة، ولذا طُرحت الصهيونية باعتبارها العقيدة التي حاولت أن تُحقِّق لليهود من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي ما فشلوا في تحقيقه من خلال التشكيل الحضاري الغربي.
ولكن الدارس المدقق سيكتشف أن ما حدث هو في الواقع إعادة إنتاج للنمط نفسه: المجتمع الغربي المضيف الذي يحول الجماعة اليهودية ويُوظِّفها لصالحه ويدعمها بمقدار نفعها، فالدولة الصهيونية، رغم حداثة شكلها، إن هي إلا إعادة إنتاج لواحد من أكثر أشكال التنظيم الاجتماعي تخلفاً وكموناً وتواتراً في الحضارة الغربية.
ويمكننا أن نطرح السؤال التالي: لماذا تم تجنيد أعضاء الجماعات اليهودية لتأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية، دون غيرهم من الأقليات؟ لا يمكن القول: إن المجتمع يفرض على الجماعة الوظيفية وضعها الوظيفي، كما لا يمكن القول: إن هذا الوضع الوظيفي من اختيار الجماعة الوظيفية، فظهور الجماعة الوظيفية واضطلاعها بدورها يعود لظروف عديدة مركبة، إذ تنشأ حاجة لجماعة غريبة تضطلع بوظيفة يرى مجتمع ما أنه غير قادر على أدائها، إما لأنها مشينة أو لأنها متميِّزة جداً أو لأنه لا يملك لا المادة البشرية ولا الخبرة لأدائها، وعادةً ما تُوجَد مادة بشرية مناسبة (إما خارج المجتمع أو داخله) لأداء مثل هذه الوظيفة.
_______________________
المصدر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.