شاع في الفترة الأخيرة استخدام مصطلح القيم الصلبة في مواجهة القيم السائلة، حيث ترتبط القيم عادة بالأخلاق والسلوك في المجتمع، والحكم على الفرد والجماعة من خلالهما، وقد تغيرت طبيعة المجتمعات العربية الخُلقية والسُّلوكية في العقود الأخيرة لأسباب شتى، فتراجعت حضارياً وقيمياً إلى الوراء في معظم المجالات الحياتية والإنسانية، بدلاً من التقدم إلى الأمام.
لقد تراجعت قيم العمل والحق والصدق والعدل والإنصاف والمروءة والشهامة وغيرها، لتسود قيم البطالة والباطل والكذب والظلم والإجحاف والنذالة والخسة والغش وما يشبهها، وهو ما جعل كثيراً من العلماء الغيورين يعالجون قضية القيم، ويبحثونها من مختلف الجوانب، وخاصة في الجانب التربوي العلمي أو المعرفي.
القيم في المنظور الإسلامي تمثل أساساً مهماً لبناء الفرد والمجتمع وتشكيل الاختيارات والتوجهات
وهناك عدد كبير من الدراسات والبحوث القيمة التي تناولت الموضوع وخاصة في الجانب التربوي، ونشير إلى بعضها فيما يلي:
– عبداللطيف خليفة، ارتقاء القيم، المجلس الوطني للثقافة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1992م.
– سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، مدخل القيم، سلسلة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، المعهد العالي للفكر الإسلامي، القاهرة 1996م.
– ماجد الزيود، الشباب والقيم في عالم متغير، دار الشروق، عمّان، 2006م.
– محمد جميل خياط، المبادئ والقيم في التربية الإسلامية، مكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، 1425هـ.
– فتحي حسن ملكاوي، منظومة القيم المقاصدية وتجلِّياتها التربوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمّان، 2020م.
أساس مهم
وتمثل القيم في المنظور الإسلامي أساساً مهماً لبناء الفرد والمجتمع وتشكيل الاختيارات والتوجهات، وبعد ذلك الحكم بالنجاح والإخفاق في تطبيق القيم وممارساتها.
وقد وصف القرآن الكريم الدين الحنيف بالدين القيّم؛ أي المستقيم الذي لا عوج فيه، وتردد هذا الوصف في 6 آيات وردت بلفظه في سور مختلفة (التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30، الروم: 43، الكهف: 2)، كما ورد بلفظة «قِيَماً»، و«قيّمة» في سورتين أخريين (الأنعام: 161، البينة: 3، 5)، مما يدل على أهمية الاستقامة والاعتدال في حياة المسلمين؛ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30).
وكما نرى يدور المعنى اللغوي للقيمة والقيم والطريق القويم حول الاستقامة والاعتدال والتوازن والثبات والدوام والاعتدال وما يرادفها، وهو ما تتفق عليه معاجم اللغة بصورة شبه تامة (ابن منظور، 498/12، القاموس المحيط، 1152، المصباح المنير 714).
القيم ذات المرجعية الإسلامية مصدرها الكتاب والسُّنة وهي ثابتة تضيء طريق الإنسانية إلى الخير
ولا يبعد المفهوم الاصطلاحي عن المفهوم اللغوي كثيراً، فهو يدور حول المعايير التي تتصل بالمستويات الخلقية التي يمتصها الفرد من البيئة الاجتماعية، ويأخذ منها موازين لإبراز أفعاله، أو المعايير والأحكام التي تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية، وتساعده على اختيار الأهداف والتوجهات وتوظيف القدرات والإمكانات، أو المعتقدات والتصورات المعرفية والوجدانية والسلوكية الراسخة التي يختارها الإنسان بحرية وتشكل منظومة من المعايير يتم بها الحكم على الأشياء ويصدر عنها سلوك منتظم (خميس حامد عبدالحميد وزة، فاعلية برنامج تدريبي للمعلمين في تعليم القيم وأثره في إكسابها لطلابهم، بحث منشور في مجلة كلية التربية، جامعة الأزهر، العدد (176/ 1)، ديسمبر 2017م).
وإذا كانت للقيمة أبعاد ثلاثة: معرفي وتطبيقي ووجداني، فإن البعد الأول (المعرفي) هو الذي يعنينا في هذا السياق، حيث يرتبط بمجال التعليم الحيوي لاكتساب القيم الإيجابية التي تساعد على إصلاح المجتمع من خلال بناء الفرد واستقامته وتشرّبه لغايات المجتمع وطموحاته.
إذا أخفق التعليم في إشاعة القيم القويمة فاعلم أن المجتمع في طريقه إلى الانهيار، وإذا نجح فإنه يصعد إلى مراتب التقدم والحضارة، وهنا تظهر أهمية التمييز بين القيم القويمة والأخرى غير القويمة.
المرجعية الإسلامية
القويمة بمفهومنا هي القيم ذات المرجعية الإسلامية ومصدرها الكتاب والسُّنة، وهي قيم ثابتة تضيء طريق الإنسانية إلى الخير والرشد، وتحقق تماسك المجتمع وازدهاره وقوته، ومجالها الأرحب في المجال المعرفي: التعليم والثقافة والوعي والإبداع والفنون، وتنعكس تطبيقاتها على المجتمع وعلو شأنه في علوم الحياة، وهو ما تنبه إليه قادة الفكر والرأي في العالم الإسلامي من أمثال محمد إقبال، ومالك بن نبي، والشيخ محمد الغزالي (1917 – 1996م) الذي يرى أن قصر باع المسلمين في علوم الحياة هو أبشع جريمة يمكن أن ترتكب ضد الإسلام.
قيم الغرب الاستعماري توظّف المعرفة والعلم والاختراع للعدوان على الآخرين وإضعافهم وسرقة ثرواتهم
وهذا القصور إن أمسوا به في هذه الدنيا متخلفين؛ فهم عند الله ورسوله أشد تخلفاً، وأسوأ عقبى!
هذا الرأي للغزالي يواجه قيماً أخرى يمكن أن نسميها قيماً استعمالية أو تجارية أو انتهازية، تأسست عليها حياة الآخرين من أنصار الغزو والاستبداد والنهب وقهر الآخرين، إنها قيم الغرب الاستعماري التي توظّف قيم المعرفة والعلم والاختراع للعدوان على الآخرين وإضعافهم وسرقة ثرواتهم وممتلكاتهم وإرغامهم على التبعية، أو محو وجودهم إن أمكن، ولا يدخرون وسيلة في تحقيق ذلك بقيم غير قويمة من خلال الحروب والفتن الداخلية والإغراء بنوع من التعليم يتماهى مع التصورات المعادية للأمة الضعيفة وثقافتها ومعتقداتها.
بل لا يتورعون عن استخدام التجارة ولغة السوق للترويج لقيمهم وأخلاقهم ورؤاهم التي تخضع المواطن المسلم أو المواطن الضحية لما يريدون من إشاعة قيم الاستهلاك والخداع و”الفهلوة” والشطارة والغش والمظهرية والاستسهال وعدم الجدية وغير ذلك من قيم لا تبني بقدر ما تهدم، ولا تنتج بقدر ما تُضيّع.
لقد اهتم الإسلام بقيم العلم والتعلم والمجال المعرفي بعامة، والآيات القرآنية الكريمة قرنت بين العلم والعبادة، بل جعلت العلماء أول السابقين إلى معرفة الله وخشيته؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28)، ولذا اهتم علماء الإسلام منذ وقت مبكر بقيم العلم والتعلم أو المجال المعرفي، ولعل أبرز من أسهم بجهد كبير في هذا الإمام أبو حامد الغزالي (450 – 505هـ/ 1058 – 1111م)، في كتابه الشهير «إحياء علوم الدين»، وخاصة الفصل الخامس، ولا ينصرفن الذهن إلى قصده بالعلم ما يتعلق بالشريعة وحدها، بل إنه قصد كل ما يخدم الإنسان في المجال المعرفي، ثم إنه وضع رسائل في آداب العلم والمتعلم، واحترام العلماء، وكان بشخصه نموذجاً للعالم المسلم الذي يبحث عن المعرفة أني كانت بجهد كبير وجدية راسخة.
تحوّلات الأمم
عندما تنتقل القيم الإسلامية في المجال المعرفي من الحالة الصلبة المتماسكة إلى الحالة السائلة الرخوة، فإن المجتمع يهتز ويضطرب ويتراجع، ولا تبقى للأمة فرصة لتجاوز المصاعب والمتاعب، وقد عَبَرَتْ أمم وكيانات سياسية من حالة الضعف والنسيان إلى عالم القوة والتقدم المادي حين اعتمدت على قيم صلبة فيها من الجدية والجهد ما يجعلها منتجة وأكثر تأثيراً في المجال المعرفي، على سبيل المثال نذكر اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والكيان اليهودي الغاصب في فلسطين، ثم الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا والهند وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل.
في بلادنا العربية أو معظمها يأخذ المجال المعرفي حالة من الشكليات غير الجادة، هناك مسؤولون يهتمون مثلاً بمنع النقاب في المدارس والجامعات، بينما الفصول والمدرجات خاوية على عروشها بسبب انصراف الطلاب إلى السناتر أو بيوت الدروس الخصوصية، وفي الوقت ذاته لا يلتفت هؤلاء المسؤولون إلى المدارس والجامعات الأجنبية التي تنهض على أرض إسلامية، وتدرس في المراحل الأساسية والجامعية ما يسمى بالمثلية الجنسية، أي اللواط والسحاق!
يعزز من شكليات التعليم في بلادنا العربية والإسلامية انتشار ظاهرة الغش، كنا في زمن مضى نشعر بالعار حين يضبط أحدهم وهو يغش بطريقة تقليدية أي قصاصات الورق المدون عليها نصوص المقرر بخط صغير دقيق، اليوم لا يخجل الطلاب من الغش، بل إنهم يدخلون إلى الفصول والقاعات ويدوّنون المقررات على المقاعد والمكاتب والحوائط وكل مكان يمكن أن تدون عليه مادة الامتحان حتى بعض أعضاء الجسم، ناهيك عما يحدث في المناطق النائية حيث يتم تسريب ورقة الأسئلة إلى من يتولى إجابتها ومن خلال مكبرات الصوت تقرأ الإجابة من فوق سيارة لا تجدي معها السيطرة الشرطية!
هل تنهض أمة وأبناؤها المتعلمون غشاشون؟ هل نثق في الطبيب الغشاش وهو يجري جراحة لمريض؟ أو نثق في مهندس غشاش وهو يبني عمارة يمكن أن تقع على رؤوس ساكنيها؟ أو نثق في صيدلي غشاش يقدم دواء غير المطلوب؟ أو نثق في كاتب غشاش لا يدون الحقائق، ويستحل الأكاذيب، ويروج للأباطيل؟!