بعض الأفكار تمثل علامات فارقة في المكتبة العالمية وليست المكتبة العربية وحدها، ومن بين تلك الأفكار التي يمكن وصفها بالعظيمة فكرة كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» للمفكر المسلم علي عزت بيجوفيتش؛ وذلك لما تمثله تجربته التحررية والسياسية والجهادية من قوة فكرية وواقعية، علاوة على موقع بلاده في القارة الأوروبية ومواجهتها أعنف الحروب الفكرية والمادية في القارة العجوز.
واستطاع الرجل الأوروبي المسلم أن يتعامل مع الحضارة الأوروبية التي هو جزء منها لنرى نموذجاً عملياً للفيلسوف والعالم والزعيم الأوروبي المسلم، الذي استطاع أن يعبر ببلاده إلى حالة من السلام ووقف العنف الموجه إليها كفكرة دينية في المقام الأول، أو كما قيل من قبل أن أوروبا عبارة عن نادٍ مسيحي ولن يسمح بتغيير خريطتها مرة أخرى.
ومن هنا تعود أهمية الكتاب، فهو وإن كان نتاج فكر إسلامي في المقام الأول، فهو نتاج فكر أوروبي لرجل عاش وخبر عمق الحضارة الأوروبية العرجاء التي ادعت طويلاً تجردها للحرية المطلقة، غير أن تلك الحرية يجب وأدها فوراً إذا تعلقت بالإسلام أو بالمسلمين، ولقد حظي هذا الكتاب باهتمام غربي وعربي كبيرين.
ينقسم الكتاب إلى قسمين:
الأول: بعنوان «مقدمات: نظرات حول الدين»، ويتكون من 6 فصول.
الثاني: بعنوان «الإسلام الوحدة ثنائية القطب»، ويتكون من 5 فصول.
يتناول الكتاب من خلال القسمين موضوعات وقضايا إنسانية كقضية الخلق والتطور والثقافة والحضارة والظاهرة الفنية والأخلاق والتاريخ والدراما.
ويقدم بيجوفيتش الإسلام للغرب في عدة جمل تختصر فكرته الكلية عنه في الكتاب، فيقول:
1- الإسلام طريقة حياة أكثر منه طريقة للتفكير، هو ليس نظرية، وإنما قانون.
2- الإسلام ليس وسطاً حسابياً بين المسيحية والشيوعية، ولا قاسماً مشتركاً بينهما، فالصلاة والزكاة والوضوء كينونات مختلفة لا تقبل التجزئة؛ لأنها تعبير عن شعور فطري بسيط، والإنسان هو مقياسها ومفسرها.
3- أخفقت الحضارة الحديثة في سعيها لتحقيق السعادة الإنسانية المنشودة من خلال العلم والقوة والثروة؛ لأنها استبعدت العامل الديني الضامن لتطبيق قانون الأخلاق بعدالة ورحمة على كافة الخلق، وما حدث بالبوسنة والهرسك خير شاهد على ذلك، حين وقفت أوروبا تشاهد عمليات إبادة كاملة في بلاده دون أن تحرك ساكناً لأربع سنوات لمجرد أن الأرض المنتهكة يقطنها مسلمون.
فيخاطب بيجوفيتش الغرب بمناقشة نظرياته عن الإنسان ويدحض تلك النظريات التي يرى أنها جميعاً فشلت في توفير السعادة التي تبحث عنها الإنسانية منذ خطت بالقلم، ويبدأ بنظرية أصل الإنسان الداروينية ليصل إلى الإنسان كائناً متفرداً منذ اللحظة الأولى لوجوده على الأرض في عملية مقارنة بسيطة بين عالمي الإنسان البدائي والحيوان بطريقة عبقرية، فيرى أن الإنسان في الوقت الذي كانت تحركه الغريزة اختلفت فيها طقوسه جذرياً عن عالم الحيوان الذي حركته الغريزة ولم تتطور قوانينها بالنسبة له كحيوان منذ الأزل وحتى اليوم.
ويعترف بيجوفيتش بأن الإنسانية قد مرت بفترات من الوحشية يحكمها قانون الخرافة، تلك الخرافات ذاتها تعتبر نوعاً من التباين السلوكي التام بين عالمي الإنسان والحيوان، وظل الحيوان صياداً بنفس طريقته منذ آلاف السنين، غير أن طبيعة وطريقة الإنسان ذاتها تغيرت بمرور الزمن، فالخرافة تحولت لحلم ثم لحقائق مصنوعة باليد، وبدلاً من الصيد البري باليد تحول للصيد بآلات، وبدلاً من تناوله نيئاً اكتشف النار التي غيرت بدورها مسار البشرية.
فيقول: إننا قد نرى في عالم الإنسان ما يشبه عالم الحيوان، لكننا لا نرى في عالم الحيوان ما يشبه عالم الإنسان، إن النحل يتعامل بقسوة مع النحلة الضعيفة، ويلقي بها خارج الخلية، على عكس الإنسان الذي يقوم بحماية الضعيف والمعوق.
4- وعن التباين بين مفهومي الثقافة والحضارة، يوضح بيجوفيتش قائلاً: إن الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان وتأثير الإنسان على الإنسان، الثقافة تُنور العقل وتحتاج إلى تأمل لا تعلّم، الثقافة تعكس الجانب الروحي للإنسان وذلك بحب الناس وتعلقهم بصورة الإنسان الموجود في الأدب والشعر والفن والمشاعر المنبعثة عبر الزمن من دوستوفيسكي، وتولستوي.
أما الحضارة فهي تأثير العقل على الطبيعة، وتتعلق باستمرارية التقدم للعلوم والتقنية وعملية التعلم، ويؤكد بيجوفيتش أن نقد الحضارة المادية ليس بهدف الرفض، وإنما تحطيم الأسطورة المحيطة بها من أجل المزيد من «الأنسنة» في هذا العالم.
5- يُرجع بيجوفيتش الدين والأخلاق والفن لأصل واحد وفرع واحد وعالم آخر يتوازى مع عالم المادة، فإن أنكر داروين خلق الإنسان فهو بهذا ينكر الجانب الآخر للإنسان؛ وهو جانب الأخلاق والفن إلى جانب الدين، ويعلي بيجوفيتش من شأن الفن والإبداع الهادف الباحث عن الإنسانية والجمال، هو في حقيقته بحث عن الله.
6- «يوجد ملحدون على أخلاق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي»، هكذا بدأ بيجوفيتش حديثه عن الأخلاق، ثم يردف بأن الواجب والمصلحة وإن كانا متعارضين، فإنهما قوتان محركتان للنشاط الإنساني، فالواجب يتجاوز المصلحة، ولا علاقة للمصلحة بالأخلاق، فالتضحية بالنفس في سبيل إنقاذ إنسان ثم تفشل محاولة الإنقاذ هي قيمة أخلاقية غير مفهومة عقلياً، وإنما تقدم للقيمة ذاتها وليس لنتائجها النهائية، فيصل بيجوفيتش إلى أن المنظومة الأخلاقية لا يمكن الوصول إليها بالعقل المادي وحده الذي يبني قيمه من خلال مبدأ المصلحة أو المنفعة الشخصية أو المجتمعية، فعالم النحل الذي يلقي بالنحلة الضعيفة خارجاً غير عالم الإنسان الذي يفخر بمبدأ التكافل الإنساني.
7- هل يأتي الشر من داخل الإنسان، أم أنه نتيجة مجموعة عوامل خارجية؟ فأما المؤمنون فيعتقدون أن الإنسان يحمل كلاهما، وما عليه سوى أن يختار ويقوي الجانب الطيب بداخله، وأما الماديون فيرون أن الإنسان ما هو إلا مجموعة الظروف التي تحيط به، فيحولونه بهذا المعنى إلى مجرد شيء منزوع الإرادة، يتحدث عن الدراما و«الطوبيا» ليصل إلى أن الإنسان مخلوق فريد وخاص، وكي تكتمل خصوصيته فلا بد له من الإيمان الكامل بوجود شقه الآخر الذي هو الروح، وعندما يدرك أنه بلا روح لا تجوز له الإنسانية، فيستلزم وقتها الإيمان بوجود الله.
8- يصل بيجوفيتش إلى أن الإسلام دين الإنسان، ويجب عليه كي يفهم دينه جيداً أن يكون على علم بتاريخ اليهودية والمسيحية، ففي الإسلام تتجسد وحدة الروح والجسد في فكرة الأمة، وهي الوحدة بين الاتجاه الروحي والنظام الاجتماعي، فكما تخدم الشعائر التعبدية الروح، يمكن للنظام الاجتماعي كذلك أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق، الإسلام لا يسعى لتحويل الناس لملائكة، ولا يتركهم كذلك لغرائزهم تحركهم بغير تهذيب.
9- إن الإسلام ليس مجرد أمة، وإنما على الأرجح دعوة إلى أمة «تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر»؛ أي تؤدي رسالة أخلاقية تحمل الناس من عالم المادة البحت لعالم السعادة المتوازن ليضمن له سعادة الدنيا والآخرة، ويضمن له اكتمال أسباب امتلاك الأرض في يده وليس في قلبه، كما أن الإسلام لا يمكن تطبيقه في عالم متخلف، ففي اللحظة التي يتم فيها التطبيق الحقيقي للإسلام في مجتمع ما، يكون هذا المجتمع قد بدأ يتخلى عن تخلفه ويدخل في مجال الحضارة.
10- وفي حديثه عن قضية القضاء والقدر، يعود بنا إلى سمو الفكرة الإسلامية في التسليم المطلق بالقدر، وهي اللحظة التي تسقط فيها كل المعوقات الإيمانية الداخلية فيتشبع الإنسان بإيمان يجعله مستعداً لقبول كل ما يأتي به القدر، شرط أن يكون قد بذل كل الأسباب المستطاعة إليه كإنسان دون كلل، فيكون استسلامه برضا وطيب نفس وسلامة صدر دون شعور بعجز أو تقصير.
________________________
(*) علي عزت بيجوفيتش، المفكر والفيلسوف الإسلامي، أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد تحريرها، درس القانون وعمل به حتى تفرغ للبحث والكتابة، وكان من أهم كتبه ذلك الكتاب «الإسلام بين الشرق والغرب».